في 18 تموز 2012 أعلن النظام عن مقتل عدد من قادته الكبار، كان أبرزهم وأكثرهم تأثيرا “العماد آصف شوكت”، الرجل الذي كسب معارك كثيرة ضد آل الأسد لكنه خسر الحرب في النهاية!
فرغم كل ما عرف عنه من سطوة وحظوة ، وما قدمه من خدمات للنظام، بقي “شوكت” رهين قرار بيت الأسد، ابتداء من حافظ وزوجته أنيسة، مرورا بباسل وبشرى، وصولا إلى بشار وماهر، إلى درجة أن سوريا في حقبتها الأسدية لم تعرف رجلا شهدت حياته السلطوية مدودا وجزورا كتلك التي شهدتها حياة “شوكت”، وهو يتقلب مرات في “رضى” الأسد وأبنائه، وأخرى في “سخطهم”.
كسر “شوكت” كثيرا من الحلقات خلال صعوده، ودخل إلى أكثرها ضيقا وخصوصية، حين استطاع -رغم منبته غير العلوي وتحدره من عائلة تفتقر إلى جذور ضاربة في أرض العسكر- أن يحظى بابنة حافظ الوحيدة، ويكسب رهانا فشل فيه آخرون بدوا “أجدر” سلطويا وماليا وطائفيا منه، أبرزهم “حازم” ابن رئيس الأركان الراحل “حكمت الشهابي”، و”محسن بلال” طبيب حافظ الشخصي المتحدر من عائلة علوية معروفة، وذات امتدادات سلطوية ظاهرة.
على جثته
من هذه النقطة بالذات، نقطة اقتحامه بيت الأسد من أوسع أبوابه (بشرى)، بدأت مسيرة التحولات في حياة “آصف” راسمة خطا بيانيا شديد التذبذب، هوى بالرجل من قمة المقربين إلى حافظ وابنته بشرى إلى شخص منبوذ ومحاصر، بأوامر صارمة من ابن حافظ الأكبر (باسل)، الذي عارض بالقول والفعل أي مشروع اقتران أو حتى تقارب بين بشرى وآصف، وكان كل سلوك لباسل في هذا الإطار يقول بلسان الحال إن ذلك لن يحدث إلا “على جثتي”.. وهو ما كان بالفعل عندما تحول “باسل” إلى جثة نتيجة حادث غامض مطلع 1994، فأضاءت الإشارة الخضراء التي انتظرها كل من بشرى وآصف ليتما زواجهما، ويضعا الجميع –بمن فيها حافظ- أمام ما يسمى “الأمر الواقع”.
وتعطي العودة إلى الأرشيف المخابراتي الضخم دليلا على التحدي الذي كان محيطا بـ”آصف شوكت”، حيث كان موضوعا على قائمة الممنوعين من السفر بموجب مذكرة صادرة عن المخابرات العسكرية، الجهاز الذي صعد “شوكت” سلمه حتى وصل أعلاه واستلم رئاسته.
ويشير تاريخ صدور هذه المذكرة عام (1993) وبشكل واضح إلى أنها مسطرة بتوجيهات من “باسل”، الذي اصطدم عدة مرات بأخته وبـ”آصف” وحال بينهما، قبل أن يزيحه الموت.
وتكشف المذكرة المخابراتية عن أهم البيانات الشخصية لـ”آصف شوكت” بوصفه ابن محمود وخديجة من مواليد 1950، قيد تلكلخ (ريف حمص)، وهو ما يؤكد الروايات التي تشير إلى منبته، وأنه وافد إلى الوسط العلوي وتحديدا قرية “المدحلة” في ريف طرطوس، حيث نشأ ودفن عقب مقتله.
وتوضح سجلات رسمية أخرى تحتفظ بها “زمان الوصل” أن لدى محمود شوكت وخديجة صالح (والدا آصف)، 5 ذكور آخرين، أحدهم يكبر “آصف” وهو “محمد” من مواليد 1947، ثم حيدر (1956)، فيصل (1958)، خالد (1963)، مفيد (1967)، وكلهم مقيدون بوصفهم من مواليد “المدحلة”.
كما توضح السجلات أن لـ”آصف” أبناء من زوجته الأولى “سلام”، هم: ديما (1978)، زياد (1979، وهو الذي يكنى آصف باسمه فيدعى أبو زياد)، طارق (1982)، وحمزة (1983).
وأنجبت “بشرى” بعد ارتباطها بـ”آصف” ولدين سمت الأكبر منهما “باسل”، والآخر سمته “حافظ”، وقد ظهرا قبل فترة في لقطات تجمعهما مع أبناء خاله بشار، فظهر “باسل شوكت” مع ابنة خاله “زين” في لقطة ثنائية، كما ظهر باسل وحافظ شوكت مع ابني بشار (حافظ وكريم) في لقطة رباعية.
إناء صيني
طوال ما يقارب عقدين من علاقته الوثيقة بأسرة حافظ الأسد، كونه صهرهم الوحيد، كان اسم “آصف” كإناء صيني يرن كلما ذكرت عملية أو صفقة مخابراتية ضخمة أو فاحت رائحة فساد عريض، ابتداء من علاقته بملف العراق (تهريب النفط، الاستيلاء على أموال النظام السابق، السماح بتسلل المقاتلين، دعم الدعوات إلى “الجهاد” في العراق، تقريب وربما تجنيد بعض “الشيوخ”..)، مرورا بصلاته المتشابكة مع أجهزة الاستخبارات الغربية وتعاونه معها تحت غطاء “مكافحة الإرهاب”، وانتهاء بتغلغله في الملف اللبناني، وفي هذا الملف بالذات برزت “مواهب” الرجل الموائمة للمسطرة الأسدية، حيث وضع بصماته على عملية اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري، مرتين، الأولى عندما بدأ النظام في سوريا يشن ضد “الحريري” حملة تشويه وتخوين، والثانية والأخيرة عندما تم اغتياله بشحنة لغّمت بنحو ألف كيلوغرام من المتفجرات.
وعقب عملية الاغتيال، ارتفعت أسهم “شوكت” لدى بشار بشكل كبير، لحاجة الأخير إلى من يدعمه في كسر طوق العزلة المفروض حوله حينها، لكن الأوراق اختلطت مع اغتيال القيادي الخطير في مليشيا “حزب الله” “عماد مغنية” وسط دمشق في شباط/فبراير 2008، وهي العملية التي توجهت فيها أصابع الاتهام إلى “شوكت”، إما بوصفه مقصرا ومتهاونا في تطبيق إجراءات المراقبة والحماية الخاصة بـ”مغنية” أو متآمرا ومشاركا في اغتياله.
ولعل في مقاطعة بعض مذكرات الأرشيف المخابراتي الأسدي، ما يقدم طرف خيط يمكنه أن يقود إلى مكان ما، ويفسر طبيعة التحالفات والصراعات بين مراكز القوى المخابراتية داخل سوريا من جهة، وبين هذه المراكز و”الحلفاء” خارج سوريا من جهة أخرى.
ويبدو أكثر من لافت، بل يبدو مثيرا لمختلف أنواع الشك والتساؤل أن نعثر ضمن هذا الأرشيف على مذكرة صريحة تقضي بـ”اعتقال” عماد فايز مغنية، صادرة عن شعبة المخابرات العسكرية، التي تعد المحضن الأهم ودائرة النفوذ الكبرى لـ”آصف شوكت”، حيث كان الرجل ذا كلمة مسموعة في هذا الجهاز منذ التحاقه به، ولم يفقد تأثيره عليه، حتى عقب خروجه -أو إخراجه- من رئاسته عام 2009.
وأيا تكن الدوافع الحقيقة لتسطير مذكرة “اعتقال” صريح بحق واحد من أطول أذرع إيران في المنطقة، فإن الثابت أن المذكرة تشير إلى قدرة استثنائية لدى مخابرات النظام في اللعب على الحبال، ونسف الخطوط الفاصلة بين التحالف والتنافر، والانتقال من النقيض إلى النقيض، وعقد صفقات البيع والشراء “المربحة” سياسيا وماليا.. وكل هذه صفات يتوارثها كبار ضباط النظام المخابراتيين، ويتواصون بأداء طقوس الولاء لها كل حين، إلى أن يدفنوا وتدفن أسرارهم معهم.
مصادر زمان الوصل