بعد استنزاف أموال حقوق السحب الخاصة التي حصل عليها لبنان من صندوق النقد الدولي كاملة هذا الشهر، ومع انقضاء موسم الصيف وتوقّف تدفّق أموال المغتربين السياحية، وفي ظلّ قرار مصرف لبنان عدم المسّ باحتياطي العملات الأجنبية لديه للتدخل في سوق الصرف، لا بدّ أن يتراجع حجم الدولارات المعروضة في السوق وقد يزيد الطلب عليها.
أوّلاً، لأنّ أموال السحب الخاصة المنفقة على التزامات الدولة ساهمت في ضخّ حوالى 50 مليون دولار شهرياً منذ العام 2021 ولم تعد متوفّرة حالياً. ثانياً لأن أموال السياحة ساهمت في ضخّ حوالى 600 مليون دولار شهرياً في الفصل الثالث من العام الحالي وقد تقلّص هذا الإنفاق الى حدّ كبير. ثالثاً لأن الطلب على الاستيراد سيزداد مع بدء موسم الشتاء وسط ارتفاع استهلاك المحروقات للتدفئة وغيرها، وتحضيراً لموسم عيدي الميلاد ورأس السنة.
وبالتالي، سيكون هناك قريباً شحّ في عرض الدولارات في السوق، خصوصاً أن الدولة أحجمت عن تسديد معظم التزاماتها أخيراً بالدولار باستثناء رواتب القطاع العام، بإيعاز من مصرف لبنان لتأجيلها حفاظاً على الاستقرار النقدي. إلّا أن تلك الالتزامات والنفقات لا يمكن أن تؤجل أكثر. وقد يضطرّ البنك المركزي عاجلاً أم آجلاً الى تأمين الدولارات اللازمة لها من السوق. ما يطرح السؤال الأبرز: الى متى سيبقى الاستقرار النقدي النافذ منذ آب الماضي، قائماً؟
عرضة للخلل
في هذا الإطار، اعتبرت الرئيسة التنفيذية لمؤسسة Juriscale سابين الكيك أن الأدوات المالية والنقدية المستخدمة للحفاظ على الاستقرار النقدي الحالي، ليست أدوات اقتصادية سليمة ومستدامة وليست مبنية على رؤية استراتيجية واضحة، بل هو مسعى من قبل مصرف لبنان لخلق نوع من التوازن النقدي، «ما يؤكد أن هذا الاستقرار مصطنع وليس حقيقياً، وهو عرضة للخلل عند أي خضة أمنية، اجتماعية أو سياسية، أو أي ضغط قد يمارسه السياسيون على حاكم البنك المركزي في المرحلة المقبلة».
وأوضحت الكيك لـ»نداء الوطن» أن ما ساهم في تحقيق هذا الاستقرار النقدي هو الموسم السياحي المزدهر الذي أدّى الى ضخّ الدولارات في السوق ولكن ليس عبر النظام المصرفي، ما اضطرّ مصرف لبنان لإعادة شرائها من السوق، بالإضافة الى سعي البنك المركزي الى سحب السيولة النقدية بالليرة من السوق ما أدّى الى حصول شحّ كبير بالليرة، خصوصاً بعد دولرة التعاملات التجارية كافة تقريباً.
المرحلة المقبلة أصعب
وأكدت أن الحفاظ على الاستقرار النقدي سيكون أصعب في المرحلة المقبلة، بسبب انتفاء العوامل التي ساهمت في تحقيقه، من دولارات السياحة وغيرها بالإضافة الى الزيادة المرتقبة في الطلب على الدولار في فصل الشتاء نتيجة ارتفاع حاجات الاستيراد للفيول وغيره. كما أشارت الكيك الى أن الاحتياطيات القابلة للاستخدام في مصرف لبنان أصبحت شحيحة، في حين أن إيرادات الدولة بالعملة اللبنانية تتراجع بشكل متواصل وسط تعطّل إدارات الدولة، بالإضافة الى أن مصرف لبنان لا يستطيع مواصلة منع الدولة من تسديد التزاماتها بالدولار أو تأجيلها أكثر، لأن إحدى وظائفه الأساسية هي تأمين الدولارات لتسديد التزامات الدولة عندما تكون لديها إيرادات لديه بالليرة. وبالتالي، فإن هذا الاستقرار النقدي المصطنع قائم على حساب الحاجات الأساسية في البلاد.
واعتبرت الكيك أن مجلس المركزي لمصرف لبنان لم يحدّد سياسة نقدية واضحة لإدارة البنك المركزي بل إنه يسعى لإدارة مرحلة الشغور بالحد الأدنى، وبشكل شهري، مع تعهد وحيد بتأمين رواتب القطاع العام بالدولار واحتياجات القوى الأمنية، علماً أن مرحلة الشغور قد تطول وتزول أدواته للحفاظ على الاستقرار النقدي.
على السياسة المالية أن تؤدّي دورها
من جهة أخرى، اعتبر مصدر مصرفي أن السياسة المالية المتّبعة هي المسؤولة في المرحلة المقبلة عن الحفاظ على الاستقرار النقدي، ولم تعد اللعبة متعلّقة بالسياسة النقدية، موضحاً لـ»نداء الوطن» أن الاستقرار بات للأسف نسبياً، يعتمد فقط على الحفاظ على سعر الصرف عند مستوياته الحالية، وعلى تأمين رواتب وأجور القطاع العام وبعض أعباء الدولة. ولم يعد الهاجس أو الاستقرار الفعلي مرتبطاً بتأمين بنى تحتية فعالة أو حاجات البلديات أو النفقات التربوية والصحية. وبالتالي فإن عناصر الاستقرار أصبحت مرتبطة بالإنفاق المالي الحكومي على التزامات الدولة وبتوجّه الدولة المستقبلي، «هل ستفعّل جبايتها لتأمين حاجاتها المالية الأساسية؟ هل ستستطيع مواصلة تأمين 200 مليون دولار شهرياً لتسديد الرواتب والأجور والمتطلبات الأخرى؟».
وشدّد المصدر المصرفي على أن التحدّي اليوم مالي وليس نقدياً، والإجراءات المقبلة يجب أن تكون مالية لا نقدية، أي على صعيد الموازنة والحكومة، لأن الأدوات النقدية استُنفدت في حين تزداد حاجات الإنفاق الحكومي على الصعيد التربوي، كما على الصعيدين الصحي والاجتماعي… وخلص الى أن الاستقرار النقدي لا يمكن أن يستمرّ إن لم يقابله توازن مالي على صعيد الإيرادات والنفقات الحكومية.