الخميس 9 شوال 1445 ﻫ - 18 أبريل 2024 |

برامج

شاهد آخر حلقاتنا اونلاين

أكاذيب الأسد الأخيرة تفتقر للإبداع: شعور زائف بالأمان؟

لم يعد النظام السوري، في خطابه الإعلامي والدبلوماسي، مبدعاً وخلاقاً في الكذب وتسويق المبررات مثلما كان عليه الحال منذ انطلاق الثورة في سوريا العام 2011، ولعل سلسلة المقابلات الأخيرة التي قام بها رئيسه بشار الأسد، تشكل دليلاً على ذلك التساهل في تقديم الضخ الدعائي الرسمي، وكأن النظام يفترض أن كل ما يصدر عنه لا يستحق بذل جهد لتقديمه بصورة مقنعة، مع عدم وجود سردية تتحداه، خصوصاً في الداخل السوري بعد سيطرة النظام على مناطق واسعة وقمعه حتى للأصوات التي انتقدت أداءه وإن كانت موالية له.
وظهر الأسد في سلسلة مقابلات مع وسائل إعلام محلية وروسية، كما قام زار محافظة إدلب في وقت سابق وألقى فيها خطاباً. وإن كان الأسد يقدم الأكاذيب في كل تلك الإطلالات، مثل حديثه عن عدم وجود أثر للتعذيب في البلاد خلال لقائه مع شبكة “RT” الروسية، فإن تلك التصريحات تبدو شديدة المباشرة وبعيدة من اللف والدوران الذي اشتهرت به الدبلوماسية السورية في هذا الإطار. كما أنها بعيدة من الكذب الفاقع الذي يسوق مبررات خيالية للجمهور.

على سبيل المثال، تحدث الأسد عن مقتل الطفل السوري حمزة الخطيب في درعا العام 2011، لكنه نفى قتله أو تعذيبه، مكتفياً بالقول أنه “مات.. أما كيف مات ومن أطلق النار عليه، لا أحد يعرف، كانت هناك فوضى”، وهي رواية تتناقض مع الرواية التي اعتمدها النظام في السنوات الأولى من الثورة السورية، والتي كانت تردد أن الخطيب، كان يريد اغتصاب نساء الضباط، في الوقت الذي كان فيه الضباط الأوفياء، يتصدون للمؤامرة الكونية على البلاد، وإن لم يكن هنالك اعتراف صريح بالجريمة، في الإعلام الرسمي على الأقل، كان يتم تقديم المبررات لها على نطاق واسع.

وأشار العديد من المعلقين في مواقع التواصل، إلى تناقض خطاب الأسد مع خطاب النظام وإعلامه طوال السنوات الماضية، وبينما زعم الأسد أن أسباب الثورة ترجع للمال القطري وأن الدوحة كانت تدفع 50 دولاراً للمتظاهر في الساعة، فإن إعلام النظام كان يكرر في السنوات الأولى للثورة أن المتظاهرين كانوا يحصلون على “سندويشة فلافل”، داخلها مبلغ 200 ليرة سورية، أو 500 ليرة سورية، وكان يتم تحديد المبلغ، بحسب المدينة، ونقطة التظاهر، ففي إحدى المناطق، كان المتظاهرون يحصلون على “سندويشة فلافل” داخلها 25 ليرة سورية فقط.

ولا تشكل هذه الفروق دليلاً على تطور خطاب النظام نحو مزيد من المنطقية والتماسك، بدلاً من تأليف الكذب بشكل اعتباطي قبل 8 سنوات، بل هي أقرب للعودة إلى الجذور، أي إلى ما كانت عليه الدعاية الرسمية قبل الثورة في البلاد، كما أنها تشير إلى عدم مبالاة تامة بالسردية المضادة، إما لتوهم بعدم وجودها أصلاً أو لشعور بفائض القوة بعد “انتصار” النظام العسكري في البلاد، يفضي بدوره إلى هذه الدرجة من الاستخفاف في الخطاب الرسمي. كما أنها تعطي انطباعاً بوجود شعور زائف بالأمان لدى النظام، انطلاقاً من فكرة “نهاية الحرب في سوريا”، تنتفي معه الحاجة للهستيريا، بوصفها الميكانيزم الدفاعي، الذي كان رائجاً في خطابه خلال السنوات الأولى من الثورة التي فاجأت النظام نفسه حينها.

ومهما كان الحال، فإن هذا الموقف الجديد لدى النظام يمثل تجاهلاً للواقع. فقبل أشهر قليلة فقط، كانت المناطق الخاضعة لسيطرة النظام تغلي تحت وطأة الأزمات المعيشية والخدمية المتتالية، والتي وصلت إلى حد تحدي الأسد نفسه، بشكل غير مباشر، من قبل شخصيات موالية، فنية وإعلامية، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وعليه فإن نجاح النظام في قمع تلك الأصوات المحلية، بما في ذلك الناشطون الموالون له، لا يعني اختفاء تلك النقمة عليه، من دون الحديث عن إيمان ملايين السوريين بفقدان النظام للشرعية منذ العام 2011، حتى لو كان النظام يعتبرهم خونة وغير سوريين أصلاً.

وفيما يبدو الأسد شخصاً فاقداً للسلطة ومنفصلاً عن الواقع، في تصريحاته المختلفة، مع حقيقة إقصائه عن أي نقاش يمس تقرير مصير البلاد من قبل الحلفاء والأعداء على حد سواء، فمن المثير للاهتمام، اضطرار الأسد للرد بنفسه على العديد من التصريحات والتصرفات التي استهدفته مؤخراً، سواء من وسائل إعلام روسية هاجمت مواقفه من بينها “RT” نفسها، أو من قبل شخصيات غربية وأممية، مثل المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، بدلاً من إيكال تلك المهمة لوسائل الإعلام الموالية أو الصفحات في مواقع التواصل، والتي باتت جميعها نسخاً متطابقة تصفق مع كل حدث/إطلالة لـ”سيادته”، ولا تقوم بأي مبادرة، حتى لو كانت تطبيلاً للنظام، خوفاً من عقاب مفترض، لأن أي خطاب عام في البلاد اليوم يجب أن يأتي ضمن لغة النظام ومفرداتها بنسبة 100%، وهو أمر لا يمكن التحقق منه بسهولة، بدليل التناقض بين لغة الأسد ولغة إعلامه على مر السنوات.

وهكذا يصبح المشهد في الإعلام الموالي للنظام، متماثلاً، بتكرار عبارات مثل: “قلة من الناس على هذا الكوكب لديهم إحساس ومنطقية الأسد. إنه يعرف بالضبط ما وصلت إليه الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو يشرح ذلك بوضوح وإيجاز…”. وتعمل الحسابات التابعة للجيش السوري الإلكتروني في “فايسبوك” و”تويتر” على نشر الخطاب نفسه باستخدام المفردات نفسها والتي تتواجد أيضاً في وسائل الإعلام الرسمية، ما يخلق طيفاً موحداً من الآراء المتماثلة يشكل في مجموعه ربما المجتمع المتجانس الذي يتحدث عنه الأسد بنفسه في خطاباته منذ العام 2017.

وربما كانت رؤية النظام للسوريين المعارضين له، بوصفهم غير سوريين، تجعله لا يميز التعليقات الكثيرة التي تسخر من سرديته وتستهزئ بها، وهنا يمكن تلمس الهوة التي تفصل النظام، بوصفه سلطة سياسية فاقدة للشرعية، عن السوريين، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية. ففيما يحاول النظام تجديد نفسه بالعودة إلى جذوره، تبقى فلسفته الشمولية محافظة على إطارها العام: “المواطنة تعني الخضوع التام للقيادة”، لكن السوريين عبروا بوضوح عن تجاوزهم لتلك المرحلة وباتوا بحاجة لنظام سياسي يلبي تطلعاتهم ضمن عقد اجتماعي جديد لا يقوم على الخضوع، وكان ذلك بالتحديد محور الثورة السورية المطالبة بالكرامة والديموقراطية معاً، ولهذا بالتحديد تبقى الثورة السورية مستمرة ولو توهم النظام العكس.