الجمعة 19 رمضان 1445 ﻫ - 29 مارس 2024 |

برامج

شاهد آخر حلقاتنا اونلاين

المعضلة الإيرانية: شعبٌ يُعاقَب مرتين

يمكن القول إن نظام جمهورية إيران الإسلامية لا يختلف في الكثير من النواحي عن غيره. فعملاؤه سريون ومخادعون، وهم يقتلون شعبهم، والبقاء في الحكم هدفهم النهائي، ولذلك فهم يلجؤون إلى شتى الوسائل لتحقيق ذلك.

في أوج الأسابيع الثلاثة الأخيرة لانتفاضة الإيرانيين على الصعيد الوطني على حكومتهم، شاهدنا ملايين الأشخاص يخرجون إلى الشوارع؛ في المقابل أغلق النظام الانترنت مدة خمسة أيام، ما بين التاسع والرابع عشر من نوفمبر. وتبع ذلك أمر بإطلاق النار لغرض القتل من المرشد الأعلى علي خامنئي والشريحة العليا في قيادة البلاد. كان واضحا أن النظام يريد إنهاء التمرد بأي وسيلة ضرورية، وكان بحاجة إلى رمي غطاء من السرية فوق إيران، وتحقق هذا الأمر عبر إغلاق الانترنت.

والآن، ومع عودة الانترنت، راحت مقاطع الفيديو والصور وتقارير شهود العيان تظهر، وأصبحت دليلا على أن أمر القتل جاء من أعلى مستوى للنظام في إيران، من خامنئي، وفيلق الحرس الثوري الإيراني، واللواء حسين سلامي، والرئيس حسن روحاني.

قال علي فردوي، نائب آمر الحرس الثوري الإيراني، في حديثه عن الاستراتيجية المتبعة خلافا لتلك الاستراتيجية المستخدمة في حالة وقوع حرب شاملة ضد غزو أجنبي : “الآمر سلامي وأنا والقائد كنا جالسين في المقر الرئيسي طوال الوقت، نوجه الوحدات العسكرية مع اتصال حي بمختلف الجبهات في شتى أنحاء البلد.”

سيف ذو حدين

مع انتشار هذه الأحداث، أدركت الحكومة أن الانترنت، مثل الكثير من التقنيات الحديثة، يمكن أن يكون سيفا ذا حدين. نعم، تم قطع تواصل الإيرانيين في الداخل مع بعضهم البعض، ومع الخارج، مدة أسبوع، ولم يعرف أحد ما كان يجري داخل البلد. مع ذلك، فإن ملالي طهران أدركوا أن التواصل عبر الانترنت جوهري للتجارة ووظائف المجتمع العامة، وفي حقيقة الأمر، هناك بعض الجوانب في حياتنا أصبحت معتمدة بالكامل على الانترنت.

في الأسبوع الثاني من الانتفاضة، أطلق النظام حملة دعاية صاخبة اتهمت فيها المتظاهرين بأنهم عملاء للأجنبي ويدعمون الصهاينة، والسعودية والولايات المتحدة.

وفي مسلكها هذا، فشلت الحكومة الإيرانية في إدراك أن المواطنين الغاضبين المنتمين إلى أدنى الطبقات الفقيرة قد تضرروا كثيرا برفع أسعار البنزين ثلاثة أضعاف، وهذا ما كان بداية للاحتجاجات الجماهيرية، وهؤلاء المشاركون فيها قد سئموا أيضا أربعة عقود من الحكم القائم على القمع.

على العكس من دعاية النظام، لم يتورط أي من الأجانب في الانتفاضة، التي نجم عنها أكثر من 1,104 قتلى وأكثر من 7000 جريح وأكثر من 30 ألف معتقل، ولم يستطع النظام إعطاء اسم أجنبي واحد له دور ما في الحراك الإيراني. إضافة إلى ذلك، وبعد أن قالت ليلى فاساغي، محافظة مدينة القدس الواقعة في الولاية الوسطى، في بيان نشر على نطاق واسع إنها تتبع بفخر تنفيذ أمر إطلاق النار لغرض القتل باستخدام كل الوسائل المتوافرة لتنفيذ ذلك.

وفي حالة وجود أمر كهذا، فإن السلطة الهرمية الحاكمة ستطلب أن يكون الأمر بنشر القوة المسلحة من قبل خامنئي، باعتباره قائد القوات المسلحة، ثم من  روحاني، باعتباره الرئيس، ومن ثم وزير الداخلية. والأمر يتسلسل في الهبوط حتى يصل إلى حكام الولايات ثم إلى حكام المدن مثل فاساغي.

بعد مراجعة مفصلة وشاملة لكل البيانات المتوافرة داخل وخارج البؤر المتوترة، أصبح واضحا أن النظام نشر طبقة ثانية وثالثة من قوات مكافحة التمرد، أي قوات الباسيج الوطنية وفيلق الحرس الثوري الإيراني، ودور هذه التشكيلات المسلحة يأتي كطبقة ثانية فوق طبقة وزارة الدفاع المتمثلة بالشرطة العسكرية. وهذا يمثل تبدلا في ردود فعل النظام السابقة إزاء التظاهرات الشعبية، التي كان يتم نشر الشرطة أولا لمواجهتها.

حملة ممنهجة

هناك أدلة غزيرة تشمل أكثر من 30 ألف مقطع فيديو وتسجيل صوتي جمعتها وزارة الخارجية الأميركية، وكلها تشير إلى أن النظام الإيراني استخدم المروحيات العسكرية، ودبابات ذو الفقار، وحاملات الجنود المدرعة، “بُراق”، المزودة بأجهزة الرؤية في الظلام، ومدافع دوشكا الرشاشة الثقيلة من روسيا عيار 50، وهي قادرة على إطلاق النار من مسافة 2500 متر، وبقوة رشق تبلغ 125 طلقة في الدقيقة. هذه الأسلحة الثقيلة لم تستخدم في طهران وأصفهان لتفريق المتظاهرين وإطلاق النار عليهم. غير أنها استخدمت بشكل واسع في المحافظات غير الفارسية، مثل تلك التي يسكنها العرب والكرد، إضافة إلى المناطق التي يقطنها الأتراك الأذريين والقشقاي حول شيراز.

وأظهرت أفلام فيديو كثيرة تسلمتها وسائط إعلام دولية بما فيها صحيفة نيويورك تايمز والموقع الفارسي التابع لوزارة الخارجية الأميركية، أن بلدتي جاراهي وكوره اللتين يسكنهما الفقراء وأبناء الطبقة العاملة، والمناطق التي تحيط بالأهوار، قد تعرضت إلى مجازر جماعية ارتكبها النظام واستخدم فيها الدبابات وحاملات الجنود المدرعة وسيارات الشحن التويوتا المحملة بالمدافع الرشاشة الثقيلة. وأطلقت الوحدات العسكرية النار على المتظاهرين الهاربين للنجاة صوب الأهوار التي يبلغ عمق الماء فيها مترا وترتفع فيها حقول القصب ما بين متر ومترين. وأدت هذه الهجمات إلى مقتل المئات وإصابة الآلاف.

وأفلام الفيديو هذه دعمها شهود عيان في تقرير نشره الصحافي الكردي الإيراني شاهد علوي، الموثوق به والمتمركز في العاصمة الأميركية.

واستند تقرير علوي إلى مقابلات أجراها مع عشرات العائلات التي تعرض أفراد منها إلى الاعتقال أو الإصابة، إضافة إلى العائلات التي قتل أبناؤها في ماهشهر وجوراهي وسارندر  وفيلاهين. وهذه البلدات تقع في جنوب المحافظة ذات الأغلبية العربية، خوزستان.

وفي الأسبوع الماضي، أجرت “منظمة الأهواز لحقوق الإنسان” التي مقرها في لندن، مقابلات عبر الهاتف والسكايب مع عدد من العائلات العربية الأهوازية التي قتل أبناؤها. وتمت تلك المقابلات بحضور الدكتور جافيد رحمن، مقرر الأمم المتحدة الخاص لحقوق الانسان في إيران. وهذه المقابلات ساندت الدلائل الأخرى على وقوع المجازر.

وفي هذا الصدد قالت ميشيل باشليت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الانسان خلال مؤتمر صحافي جرى الأسبوع الماضي: “نحن تسلمنا صورا تظهر قوات الأمن الإيرانية وهي تطلق النار وراء محتجين هاربين، أو أنها تطلق النار في أماكن خطرة للمحتجين، وبصيغة أخرى، إطلاق النار لغرض القتل.”

 

كذلك، كانت هناك تقارير عن شهود عيان تشير إلى وقوع عمليات إعدام دون محاكمة لمتظاهرين تم القبض عليهم في  شوارع صغيرة وأزقة في ما لا يقل عن أربع مدن في ساربندر وجراهي وكوره وشاديغان، ومرة أخرى في محافظة خوزستان (الأهواز) ذات الأغلبية العربية.

في الوقت نفسه، جاءت تقارير من داخل الحكومة تضمنت تفاصيل عن اعتقال 14 إيرانيا خلال الأيام القليلة الأولى للاحتجاجات. وهؤلاء الأشخاص يحملون جنسية مزدوجة وهم من ألمانيا وجمهورية التشيك وفرنسا والنمسا وهولندا. وقد نُعتوا بأنهم مندسون وجواسيس تدربوا في الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية. غير أن عائلاتهم أنكرت هذه الاتهامات وقالت إن معظهم من الإيرانيين الذين فقدوا أحباء لهم ويسعون إلى الانتقام من النظام ظنا منهم أنه موشك على السقوط وأن بإمكانهم التسريع بسقوطه.

وهذه التقارير أكدها أفراد من المعارضة الإيرانية إضافة إلى صحافي غربي. وهناك تقارير أخرى تشير إلى أن بعض الأفراد تسلموا أموالا من تجار البازار في طهران. وإذا كان هذا صحيحا فإن قيادة النظام ستكون خائفة أن تعلم بهذا الأمر، لأنه تذكير بالكيفية التي وصل الخميني عبرها إلى السلطة.

نهاية النفق؟

بإلقاء نظرة على الكم الهائل من الاتصالات المستلمة من خلال مواقع مختلفة على الإنترنت، يتضح أن هناك مستوى منخفضا من التمرد ما زال متواصلا بأشكال متعددة، وأن الناس أصبحوا غاضبين أكثر فأكثر وأن المجتمع الإيراني ما زال شديد الاضطراب. إذ نشاهد كل يوم مجموعات تقوم بشكل متزامن بإطلاق حركات عصيان مدني في شتى أنحاء البلد، بما فيها كسر كاميرات السير، وعودة ظهور رسوم الغرافيتي المعادية للنظام، والقيام باجتماعات سرية على مستوى إقليمي ووضع الاستراتيجيات بين اتحادات الطلبة والعمال والمدرسين بما يخص نشاطات منتظرة في العطل القادمة.

وقد استخدم المحتجون تكتيكا أساسيا على المستوى الوطني يتمثل في إغلاق الشوارع الرئيسة والطرق السريعة باستخدام السيارات، والشاحنات ومواد البناء. ويمكن رؤية هذا الأسلوب في تبريز وطهران وأصفهان وشيراز والأهواز. ففي ماهشهر وساربندر وميناء الإمام والمدن المتجاورة وجاراهي وكوره ومدن جنوب خوزستان، قام المحتجون بإغلاق المرور وعرقلته لمسافات طويلة، معيقين السير بالاتجاهين صوب الموانئ المهمة للتجارة والاقتصاد والمتمثلة بمينائي ماهشهر والإمام الخميني. ونجم عن ذلك إبطاء حركة آلاف الشاحنات وتأخيرات في استيراد وتصدير السلع، بما فيها المواد الغذائية والمنتجات النفطية والكيميائية، التي تجلب عشرات المليارات من الدولارات لاقتصاد إيران المفتقد للسيولة النقدية. وكان استخدام هذا التكتيك أداة شديدة التأثير لشل الاقتصاد، لذلك فإن هذه الممارسة كانت درسا مهما للمستقبل.

على ضوء كل هذا، فإن النظام عليه أن يقرر كيف سيتحرك إلى الأمام. إذ عليه إما أن يكون أكثر يقظة، وأن يعزز الأمن وينشئ ستارا حديديا من أجل أن يستمر في توجهاته القمعية. والأكثر من ذلك، إعدام 250 شخصا من أولئك الذين يعتبرون قادة بوسمهم”مفسدين في الأرض”، ومعادين للأمن الوطني وخطرين على سلامة أراضي الدولة.

غير أن النظام قد يقرر أن استمرار القمع سيكون غير مجد وهذا ما قد يدفعه إلى إرخاء قبضته، ومن ثم الإذعان إلى الضغط الشعبي وتحقيق اتفاق مع الولايات المتحدة من أجل إنقاذ نفسه.

إذ قد تكون مبادلة السجين وانغ بسليمان مؤخرا بداية لعملية تفاوض بين الولايات المتحدة وإيران. فانخراط شخصيتين دبلوماسيتين على مستوى عال في البلدين، متمثلتين بوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف والمبعوث الأميركي الخاص برايان هوك من دون أن يضع الإيرانيون أي شرط هو حتى أكثر أهمية من غيره.

لكن الإيرانيين متشككون جدا من دبلوماسية البينغ- بونغ (لعبة كرة المنضدة) ولم يروا حتى الآن أي فائدة منها. خصوصا مع قدوم عطل أعياد الميلاد في الولايات المتحدة والغرب، فإن أي فاتحة قد تكون سبيلا للخروج- مع ذلك فإن تأثيرات رفع أسعار البنزين ثلاثة أضعاف والنقص في المواد الغذائية تقع على كاهل الفقراء والطبقة العاملة – وهذا أمر لم يتغير.