والأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان منذ ما قبل كورونا، أصبحت ثانوية في المعيار السائد والناجم عن أزمة كورونا. ذلك أن الإجابات الأولى على التساؤلات المتعلقة بالأزمات اللبنانية المزمنة، يجري التنصل منها على نحوين أو مثالين متدافعين، ويسابق واحدهما الآخر: الوضع الاقتصادي والمعيشي في العالم كله مأزوم ومنهار بسبب الوباء.
وهكذا تساوى الانهيار اللبناني مع الأزمة العالمية، ونجحت الحكومة في حماية نفسها من سخط الناس المحجورين والمتلاشين أصلاً.
أما الذريعة الحكومية الثانية للتنصل من المسؤولية عن الأوضاع اللبنانية الراهنة، وهي الذريعة التي ليس كمثلها شيء يثلج صدر الرئيس عون ورهطه السياسي: اتهام الحريرية وحدها بالهدر والفساد والاستدانة والاقتصاد الريعي.
في الصورة الإعلامية التي تُقدَم عن الحكومة تفوز أيضاً القوى السياسية المؤيدة لها، في سباقها مع القوى المعارضة. تقدم الحكومة صورتها كأنها “حكومة تكنوقراطيين”.
وهي صورة تناسب تطلعات الخطاب العوني، الذي يستمر في القتال وتحصيل المكاسب، فيما هو يُظهر المعارضين في حال وموقع رافضي خيار “الإصلاح”.
ويعود نجاح قوى السلطة والحكم إلى فقدان قوى المعارضة أي برنامج واضح، وغياب أي أثر لثورة 17 تشرين.
وهكذا تحتفل الموالاة بنصرين: استبعادها قوى خصومها السياسيين التقليديين. وتحطيمها أجنحة ثورة 17 تشرين، التي كانت أحدثت بعض الاختراقات في الولاءات والعصبيات السياسية. والسبب في هذا، انعدام وعي جماعات كثيرة في الثورة، وغياب أي برنامج سياسي، مالي واقتصادي، يخرج من شرنقة الاحتجاجات والتظاهرات التي تحولت إلى ما يشبه كرنفال أوشعيرة مقدسة.
وهكذا ضاعت فاعلية الشباب في نشوتهم بالساحات، فيما نجحت القوى الأخرى في الانقضاض على القوى الاحتجاجية اختراقاً وتمزيقاً. وهذا ما مكّن قوى السلطة من تشكيل حكومة دياب وتقديمها وكأنها حكومة “الثورة”.
وتستمر المعركة الإعلامية، بمواقف رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي لا يتوقف عن شن الهجمات السياسية على خصومه، محملاً إياهم مسؤولية كل الموبقات والارتكابات، كأن يقول: “ملفت أن بعض السياسيين الذين يستهدفون عمل الدولة ومؤسساتها في الإعلام، هم أنفسهم من فتك بالدولة على مر السنوات، وارتكبوا المخالفات المالية وغير المالية حتى تراكم الدين العام. وهم اليوم يحاسبوننا على ما ارتكبوه من ممارسات أوصلتنا إلى الوضع الحالي”.
كلام عون واضح المرمى، وسط غياب أي تأثير للقوى الاعتراضية، فيما يتمادى عون في توعدّه المعارضين الساكتين، ليحول حملته عليهم إلى فعل في زمن ما بعد أزمة كورونا.
ويستمر حالياً العمل على إظهار كفاءة ونجاعة الحكومة، بتصويرها نموذجاً يحتذيه العالم واللبنانيون للنجاح، لا سيما الذين انتفضوا في الساحات. ذلك أن أركان الحكم يعلمون أن الثورة ستنفجر مجدداً ما بعد كورونا. لكنهم يظنون أنها لن تكون موجهة ضدهم، بل ضد خصومهم. فهم يحسبون أن ما يروّجون له الآن سيقلب الميمنة على الميسرة.
فمشهد التظاهرات أمام كليمنصو وأمام مجلس النواب ومجلس الجنوب وبيت فؤاد السنيورة وبيت الوسط، سوف يتكرر.
وهذا ما تحضر له منذ اليوم قوى الممانعة والتيار العوني. لتدخل قوى الثورة المضادة (الممانعة) في المرحلة الثانية من التصفية السياسية لثورة 17 تشرين. وذلك بإظهار أركان الحكم الحالي على أنهم أنصار “الشعب المظلوم” الذي عليه الاقتصاص من أركان العهد السابق “البائد” المجرمين.
والشعب “مطواع سريع الانخداع”، على ما يقال، لا سيما في لبنان حيث “الشعب” مجموعة من الولاءات والعصبيات. وهكذا، يثبتون قوتهم بقلب نتائج ما راهن عليه الحريري عندما استقال، ويستكملون المعركة المفتوحة معه ليس في السياسة هذه المرة، بل من خلال الناس المنتفضة، لجعله في حالة من الندم على موقفه.
وها هي الثورة غائبة تماماً عن كل الاستحقاقات: من التمديد لشركات الخليوي، والذي كان أحد أبرز عناوين الثورة، إلى الخطط الاقتصادية المتدافعة للحكومة.
أكثر من ذلك، فقوى الثورة والمعارضة غائبة عن تصعيد عون الذي اعتمده إخفاءً لانفجار البيت الداخلي لتياره ولحكومته: الصراع المستجد على التعيينات في التفتيش المركزي، والتي فجرت صراعاً أرثوذوكسياً مارونياً بين نواب تكتل لبنان القوي. والصراع داخل البيت الحكومي على التعيينات القضائية، والكابيتال كونترول والهيركات. هذه المشكلات والمنازعات يغطيها عون بتحميله مسؤولية الأوضاع التردية كلها للقوى السياسية المعارضة للحكومة.
العنوان الرئيس لإلزام الناس بالقبول بحكومة حسان دياب، هو عدم وجود أي بديل سياسي لها، وعدم وجود برنامج اقتصادي – اجتماعي – مالي، بديل لما تطرحه الحكومة.
ولو خاضت القوى السياسية المعارضة مجتمعة معركة إسقاط حكومة حسان دياب، هل لأحد أن يقدّم برنامجاً بديلاً ينتشل لبنان من أزمته؟ أو يقدّم للناس والمؤسسات ما تحتاجه لإعادة النهوض؟
حتماً هذا السؤال الكبير لا جواب له ، ولا يمكن التعاطي معه بطوباوية تصل إلى حدّ فصل ما يجري عن الحسابات السياسية المتضاربة.
لذا، يكون الناس قد خسروا الثورة، وخسر المعارضون السلطة ومكتسباتهم فيها، لصالح إعادة إنتاج سلطة جديدة لا تختلف عن السلطة القديمة سوى بتغيّر الوجوه والأسماء، التي تستمر باتباع السياسات نفسها، بل أردأ بكثير من السياسات السابقة.
عليه، لن يكون هناك من خيار بديل سوى انتظار – كالعادة اللبنانية الدائمة – متغيرات سياسية دولية وإقليمية تفرض تغيراً لبعض الوجوه، لإعادة إنتاج نظام “أوليغارشي” جديد. وهناك من يحكى في بعض الكواليس المرتبطة بحسابات سياسية، عن فرض دخول العسكر إلى السلطة بحكومة عسكرية أو شبه عسكرية.