أعدّ مستشار رئيس الحكومة للشؤون الاقتصادية سمير ضاهر ورقة حول ملف النزوح السوري، سيتم عرضها في مؤتمر بروكسل الاسبوع المقبل.
وفي ما يلي نصها:
لبنان لِمقاربة جديدة لِملَفِ النازحين السوريين بهدف عودتهم إلى بلدِهم والحفاظ على الهويّة اللبنانية
يُعتَبَر لبنان في ما يَتعلّق بموضوع النازحين السوريين حالةً خاصة، بل وحيدة، لا تنطبق عليها الأعراف والمبادئ والحلول المعتمدة في بلدان أُخرى والآيلة إلى دمج المهاجرين في البلد المضيف ما قد يُهَدِّد، في لبنانَ، الهويةَ الوطنية وقد غَدَتْ بخطر نتيجة الوجود المتمادي والكثيف للنازحين. تُشير الإحصاءات إلى أنَّ هناك في العالم ١٩٠ مليون شخصاً مصنَّفين على أنهم مهاجرون غادروا بلادهم بحثًا عن فرص حياة أفضل. ومن بين هؤلاء، هناك حوالي ٤٠ مليون لاجئ نزحوا قسراً بسبب الحروب أو الأحداث الطبيعية، ويُمَثِّلون ٠،٥٪ (نصف بالمئة) من إجمالي سكان العالم البالغ عددهم ثمانية مليارات نسمة، وهي نسبة تختلف طبعاً من بلدٍ إلى آخر. وتُظهر التجارب أنّه من الحكمة والمصلحة المشتركة عدم إبقاء المهاجرين منعزلين ضمن بيئتهم القومية أو العرقية أو الطائفية أو الثقافية، فلا يشكِّلون مجمّعاتٍ مغلقة تتحدّى أحياناً الأنظمة القانونية والمؤسسية والعلمانية للدول التي هاجروا أو هُجِّروا إليها أو اضطرّوا العبور بها. لِذا فالمبدأ المسلّم به أنّ اندماج المهاجرين في البلد الموجودين فيه – ليتلَقَّفوا ثقافتَه وحضارتَه وتقاليدَه وطَرُقَ عيشِه ويتّقِنوا لغتَه ويتعلّموا تاريخَه وينخرطوا في مؤسساتِه ويساهموا في نموِّ اقتصادِه ويَحْتَموا بقوانينه – هو الحلّ الواقعي الأفضل لموضوع الهجرة. بيد أنّ ذلك المبدأ لا يمكن أن يسري في لبنان حيث تَعَدَّت نسبةُ النازحين إلى المواطنين المقيمين ال ٥٠٪، ما يعني حتماً أنّه في غضون جيلٍ من الزمن، ونظراً للهجرة المطّرِدة لشباب لبنان إلى الخارج، سيتحوّل “التفاعل المثمر بين الحضارات” والمفيد لبلدَي المنشأ والمهجَر، من اندماجٍ للنازحين في المجتمع المضيف إلى انصهارٍ للأقليّة اللبنانية في بحر المقيمين السوريين العارم حيث معدَّل الولادات يتعدّى معدّلَ ولادات اللبنانيين بهامشٍ لا يَقُّل عن ٢٠٪. في ذلك خطر تذويب للهوية الوطنية لا يمكن التغاضي عنه ولا القبول به، بل من الواجب العمل على تداركِه.
هذا وقد حصل أخيراً إجماعٌ وطني لمعالجة الملف الحرج، بل الوجودي، للنازحين السوريين في لبنان، يجب على السلطات اللبنانية إعادة تقييم سياسة اللامبالاة غير المُجدية التي اتُّبِعَتْ للحين في إدارة ملف الهجرة – في الواقع سياسة يواكبها ويُموّلها “المجتمع الدولي” تِبعاً لقوانينه ومعاييرِه ومبادئه مهما كانت سامية وخدمةً لمصالحِه القومية وأهدافِه السياسية التي قد لا تتجانس بالضرورة مع مصلحة لبنان. والمهم في ذلك هو أن يتحوّل نهجُ لبنان في ملف النازحين من هدفٍ يرمي إلى زيادة المساعدات الخارجيَّة التي يمكن الحصول عليها – والتي تصل فُتاتٌ منها إلى “المجتمعات المضيفة”، أي اللبنانيين – إلى سياسة يكون هدفُها الأوّل، هدفٌ لا لُبس فيه، هو العودة النهائية للنازحين إلى ديارهم، بموازاة العمل لإعادة توطين بعضهم في بلدان لجوء أُخرى.
أولاً – عبء لا مثيل له، وذو عواقب خطيرة
١. على مدى الاثني عشر سنة الماضية، كان لحرب سوريا وقعاً هائلاً على لبنان، خاصةً نتيجة التدفقّات العارمة للنازحين التي لم يَتُم تقاسمها بشكلٍ متساوٍ بين الدول، بما فيها العربية. إن لبنان، الذي يتحمَّل عبئاً غير مسبوق، يُعتَبر، مقارنةً بصغرِ مساحته وعدد سكّانه، الأول في العالم بين البلدان التي يتواجد فيها نازحون. فإضافةً لما قد يكون لذلك من تداعيات على الأمن القومي والسلامة العامة، إنّ لهذا الوجود الكثيف آثارٌ يَجِب إحصاؤها وتقييمها بشكل دقيق على اقتصادٍ ركيزته الخدمات ما يجعله عرضة لأي خلل بالاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي. فقد كان لتكاليفِه المباشرة وغير المباشرة على مدى عقدٍ ونيِّف وقعٌ ضاغطٌ على الاقتصاد الوطني والمالية العامة، وشَكَّلَ اختباراً لطاقة لبنان على حمل هذا العبء إذ أضعف قدرةَ الدولة، وهي غير كافية أصلاً، لتلبية الطلب المتزايد على البنى التحتيَّة المتهالكة في قطاعات الطاقة والنقل والمواصلات والمياه والصرف الصحي ومعالجة النفايات الصلبة، ناهيك عن الخدمات في مجالات الصحة والتعليم وإنفاذ القانون وحفظ الأمن.
٢. الأرقام والواقع الديموغرافي – كثافة سكّانية عالية وخطر تذويب للهوية الوطنية. تُفيد المديرية العامة للأمن العام، المؤسسة المسؤولة عن دخول الأجانب ومراقبة إقامتهم على الأراضي اللبنانية، عن وجود مليونين وثمانين ألف (٢،٠٨٠،٠٠٠) مواطن سوري في لبنان، أي ما يزيد عن نصف عدد المواطنين المقيمين الذي تدَنّى حالياً إلى ما دون الأربعة ملايين. وتجدر الإشارة انه منذ بدء موجة النزوح، تم تسجيل آلاف الولادات سنوياً لأولئك الوافدين، فاقَ عددُهم الإجمالي ٢٨٠ ألفاً، فيما ناهز حالياً العدد السنوي للولادات السورية أربعين ألفاً مقابل خمسة وستِّين ألفاً للبنانيين. ويُضاف إلى فئة المقيمين الأجانب مئتان وسبعون ألف (٢٧٠،٠٠٠) فلسطيني، ومئتان وخمسون ألفاً (٢٥٠،٠٠٠) من رعايا دولٍ عربية وأفريقية وآسيوية يعملون في شتّى الحرف – عاملات منزليات، وعاملي محطات الوقود وشركات التنظيف – أي ما مجموعه ٦،٥ مليون نسمة على مساحة ١٠،٤٥٢ كلم٢. بذلك تصل الكثافة السكانية في لبنان إلى ٦٢٠ شخصًا/كلم٢، وهي من أعلى نسب العالم (باستثناء “الدول-المدن” مثل موناكو، وسنغافورة، وهونج كونج،…). وحتى لو أخذنا بعين الاعتبار اللبنانيين المقيمين فقط، لَقارَبَت الكثافة السكانية ال ٤٠٠ شخص/كلم٢، وهو، آصلاً، السبب الذي جعل أرضَ لبنان الجبليّة والمزدحمة، منذ أواخر القرن التاسع عشر، بلدَ هجرةٍ يُغادره مواطنوه، مع ما يُقَدَّر ببضعة ملايين ينحدرون من أصلٍ لبناني مُنتشرين في أنحاء المعمورة. لِنُقارن لبنان من حيث الكثافة بالدول التي هي تاريخيًا بحكم واقعها وأراضيها الشاسعة ملاذاً لاستقبال المُهاجرين مثل كندا وكثافتها السكانية ٤ أشخاص/كلم٢، أو أستراليا (٣،٥)، أو الولايات المتحدة الأمريكية (٣٥).
٣. الوضع القانوني للسوريين في لبنان. يُصَنّف ال ٢،٠٨٠،٠٠٠ من الرعايا السوريّين في لبنان ضمن فئتين قانونيَّتَيْن:
(أ) – السوريّون البالغ عددهم (١،٤٨٦،٠٠٠) والذين منحتهم “المفوّضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين” (لاحقاً “المفوّضية”) بقرار أحادي صفة “لاجئ”، صفة غير مُعترف بها في لبنان كونه ليس طرفاً باتفاقية الأمم المتحدة لعام ١٩٥١ الخاصة باللاجئين. أمّا التصنيف الواجب اعتماده في لبنان تبعاً للمعجم القانوني الدولي فهو نازح (مع تمييزه عن “النازح داخلياً” وهو من أُرْغِمَ على تغيير مكان إقامته داخل وطنه). ويندرج هؤلاء النازحون تحت تصنيفَيْن: (١) ٨٨٦،٠٠٠ من “المُسجّلين” لدى المفوّضية بين عامَي ٢٠١١ و ٢٠١٥؛ و (٢) ٦٠٠،٠٠٠ من “المُدَوّنين” لدى المفوضية منذ العام ٢٠١٥ رغم أن الحكومة اللبنانية، القَلِقة من التدفّق المتواصل للسوريين، أبلغت المفوضية بوقف عملية “التسجيل”، وهو طلب تجاهلته المفوضية لِتُتَابع قبول السوريين الوافدين تحت توصيف “مدوّنِين”، لم يُعْطَوا “بطاقة تسجيل” بل رمزاً مشفّراً يسمح التعرُّف عليهم ويُخوِّلهم تلقّي المساعدات. وبينما تَتَلَقّى كلتا المجموعتَيْن مساعدات مالية، لا تشمُل الحماية القانونية، تبعاً للنظام الدولي، سوى المسجَّلين.
(ب) – السوريّون المُقَدَّر عددهم بقرابة خمسمائة وتسعون ألفاً (٥٩٤،٠٠٠) والذين يقيمون في لبنان بدواعي شَتّه، من عمّالٍ، وأصحابِ عمل، وطلابٍ، وزائرين، وأزواج لبنانيّات – منهم من تجاوزت مدّةُ إقامتهم الفترة المتاحة قانونياً أو من عَبَرَ خلسةً الحدود السورية التي يسهل اختراقُها وتصعب مراقبتُها على امتداد ٣٩٠ كيلومترًا. ففي تقدير الأمنيين، يتطلّب ضبطُ الحدودِ أربعين ألف جندياً فيما لا تتعدّى العناصرُ المنتشِرة حالياً الخمسةَ آلاف، إضافة للحاجة إلى أبراج مراقبة ومعدّاتٍ مصادر تمويلها غير متوفِّرة. وفي ما يتعلَّق بهذه الشريحة – وعَددُها غير دقيق نتيجة صعوبة ضبط الحدود – تجدر الإشارة إلى أنه قبل اندلاع حرب سوريا، كان هناك في لبنان، وذلك تبعاً لحيوية الاقتصاد ومتطلّباته، ما بين ٢٠٠ و ٤٠٠ ألف سوري يعملون في قطاعات البناء والزراعة الموسمية والصناعة، وكان دخلُهم يعيل أسَرِهم في سوريا. لكن حالت الأحوال حيث، بغَضَّ النظر عن احتياجات سوق العمل، توافدت العائلات بأكملها إلى لبنان مع العمّال أرباب الأسَر.
ثانياً – تقييم واقعي لعودة سريعة للنازحين إلى سوريا
٤. قدرةُ سوريا الاستيعابية لعودة سريعة للنازحين مُقَيَّدة ومحدودة للغاية. فقد شهدت حربُ سوريا تطهيراً مذهبياً ناجماً عن تناحر مجموعات مختلفة لتوسيع رقعة سيطرتها الجغرافية. ذلك يغذّي المخاوفَ من أن العديد من النازحين قسراً قد لن يتمّ الترحيب بعودتهم إلى أماكن إقامتهم السابقة في قُراهم، والتاريخ حافل بمآسي مماثلة. لقد تسبّبت حربُ سوريا بتشريد نصف سكانها ــ سبعة ملايين نزحوا داخل البلاد، وخمسة ملايين هُجِّروا خارجها – وهذا ما ينبئ بهول المشكلة، وصعوبة مقاربتها. وعلى الرغم من استتباب السلام على مساحات شاسعة من الأراضي السورية، فإن حجم الدمار الذي أحدثه الصراع الشرس يعني أن إعادة تأهيل البنى التحتية وترميم مباني السكن وإصلاح مرافق الإنتاج وإن كان بشكل هامشي فقط، سوف يتطلَّب فترةً طويلةً من الزمن، ناهيك عن الحاجة الهائلة إلى التمويل. والحقيقة أن المانحين الرئيسيين ومورِّدي الأموال التقليديين في المجتمع الدولي ما زالوا، بشكلٍ أو آخر، طرفاً في الصراع السياسي في سوريا – بعضهم من يسعى إلى تغيير النظام، ويعارض جهراً وفعلاً عودة النازحين، ويفرض عقوبات (قانون قيصر مثلاً) على من قد يشارك في مشاريع الإعمار – حقيقةٌ تلقي بظُلِّها على إمكانية الشروع سريعاً في حملة إعادة البناء والترميم. بيدَ أنّ استعادة سوريا لمقعدها في جامعة الدول العربية بمؤازرة المملكة العربية السعودية، وهي أحد المموِّلين الرئيسيين المحتملين لأي ورشة إعادة إعمار، يُشَكِّل تطوراً ايجابياً مشجعاً لمصلحة لبنان الذي ينبغي عليه أن يرحِّب به ويستفيد منه. كما أن التنسيق الوثيق مع السلطات السورية في ملف النازحين شرطً أساسيً لا مفرّ منه لإحراز أي تقَدُّم على طريق عودتهم.
ثالثاً – ضرورة إعادة النظر في السياسات المتعلقة بملف النازحين واستعادة زمام إدارتها
٥. المجتمع الدولي، إلى حين أن يَعْتَبِر، أحاديّاً، أنَّ الظروف قد نضجت لعودة النازحين إلى سوريا، فهو ينظر إلى دول الجوار – لبنان والأردن والعراق وتركيا – على أنَّها الجدار المنيع لوقف تدفُّق أولئك الذين يبحثون عن ملاذٍ آمِن في بلاد الغرب. بالتالي، وتمشياً مع مبدأ “الانخراط”، فهو يسعى إلى دمج النازحين في النسيج الاقتصادي والاجتماعي والحُضَري في لبنان، ليصبح السوريّون جزءاً لا يتجزّأ من القوى العاملة المحلية. ومن هنا ضغط الجهات المانحة لتمويل برامج من صلبها خلق فرص عمل للنازحين، غيرَ آبِهةٍ بالآثار السلبية وغيرها من الأعباء المترتبة عن اندماج هذا العدد الهائل من النازحين. لِذا من غير الممكن للبنان القبول بهذا النهج، بل على السلطات اللبنانية وضع السياسات الرديفة التي هي في مصلحة لبنان لإدارة إقامة النازحين بانتظار مغادرتهم لبنان وتحفيز وتسريع وتيرةَ عودتهم.
٦. على لبنان إعادة صياغة سياساته المتعلقة بالوجود الكثيف للمسجّلين والمدوّنين على لوائح المفوّضية بما فيه الترتيبات اللوجستية لإدارة هذا الملف عبر مؤسسات الدولة بالتنسيق مع المفوّضية ومجموعة المانحين. والأساسي في ذلك هو أن تكون السلطات اللبنانية، كما هو الحال في تركيا والأردن المجاوِرَيْن، مصدرَ السياسات والقرارات المتعلِّقة بملفّ النازحين فتقوده بحزمٍ وفعالية خدمةً للمصلحة الوطنية دون أي اعتبار آخر. أمّا الواقع حتى الآن، فقد تَمّ تفويض سياسة إدارته إلى حَدِّ بعيد لجهاتٍ خارجية ثنائية أو متعددة الأطراف تدعَم أكثر من مئتي منظمة غير حكومية تعمل بهامش تحرّك واسع تبعاً لأهداف مموّليها غيرَ مكترِثَة بسلطة الدولة اللبنانية. ذلك النهج أثبت فشلَه في الحفاظ على مصلحة لبنان، ويجب تعديله كي تعمل مختلف الوكالات الإنسانية والإغاثية المحلية والدولية تحت مظلّة الحكومة وتوجيهاتها وفق “خارطة طريق للمساعدات والتدّخلات” تُحَدِّد الاهداف والأدوات، ومتفق عليها بين جميع الأطراف. في هذا الإطار يجب أن تلتزم المفوّضية باطلاع الدولة اللبنانية على ما يلي:
(أ) – السياسة المَّتبعة من قبل مجموعة المانحين لضمان استمرار التمويل المطلوب للسوريين المسجلين والمدونين على لوائح المفوضية حتى إقفال الملف لا سيما أن المفوضية خفّضت خلال الأشهر الماضية عدد السوريين المستفيدين من مساعداتها من ١،٣ مليون إلى ٨٠٠ ألف، مع تَوَقُّع استمرار الاتجاه الانحداري في مستوى التمويل، مما يثير التساؤلَ حول مصادر العيش البديلة لمئات الآلاف الذين أُسقِطوا من اللوائح، والخوفَ من وقع ذلك على سوق العمل في لبنان.
(ب) – الخطط الموضوعة من قبلها لجهة تحديد عدد السوريين المسجلين والمدونين على لوائحها التي تعمل على اعادة توطينهم في بلدٍ ثالث، والمدة المتوقعة لذلك، وما سيكون مصير الذين لَن يتأمَّن لهم اعادة توطين تطبيقا للاتفاقية الموقعة بين المديرية العامة للأمن العام والمفوّضية أبّان حرب العراق، والمصادق عليها بالمرسوم رقم ١١٢٦٢ تاريخ ٣٠/١٠/٢٠٠٣. وتَنُص الاتفاقية على ألّا تتَجاوز مدّةُ “العبور” في لبنان نحو بلد الملجأ السنةَ الواحدةَ.
٧. لبنان، وإنّ لم يوَقِّع اتفاقية الأمم المتحدة لسنة ١٩٥١بشأن اللاجئين، قد التزم بمسؤولياته الإنسانية والأخلاقية كدولة عبور. بيد أنه، مع وقف العمليات الحربية في سوريا، من الأهمية بمكان التمييز، في ما يتعلّق بالنازحين السوريين المسجّلين والمدوّنين على لوائح المفوّضية، بين فئتَيْن إضافيَّتين:
(أ) – أولئك الذين غادروا ديارَهم خوفاً على سلامتهم، ما يوجِب اتخاذ ترتيبات لمعالجة إقامتهم في لبنان لحين تأمين عبورهم ضمن مدة قصيرة محددة إلى بلدان أُخرى يستقرّون فيها، مع التشديد على أنّهم يشكلون أقلية من النازحين المسجّلين والمدوّنين. لِذا على المفوضية، بالتنسيق مع المديرية العامة للأمن العام، ان تفرز هؤلاء من لوائحها من تاريخ بدء الاحداث في سوريا حتى العام ٢٠١٥ بعد تبرير ذلك للسلطات اللبنانية، ما يوجِب اتخاذ اجراءات واضحة قابلة للتنفيذ، لناحية الاماكِن التي سيتواجدون فيها، وخطط تمويل عيشهم لحين مغادرتهم الأراضي اللبنانية.
(ب) – أولئك الذين غادروا ديارَهم سعياً وراء سُبُلَ عيشٍ أفضل، وهم الأغلبية الساحقة من النازحين المسجّلين والمدوّنين والذين ينبغي متابعة ترتيبات عودتهم بشكلٍ فعّال ومنظّم إلى وطنهم حيث لا يواجهون تهديداً لسلامتهم. لِذا على المفوضية ان تفرز هؤلاء من لوائحها بالتنسيق مع المديرية العامة للأمن العام. وحسب الداتا المسلَّمة الى الامن العام، ينبغي تحديد وضع هؤلاء، ورسم خطط سريعة لناحية إيوائهم بطريقة منظَّمة وتأمين عيشهم لحين عودتهم الى سوريا.
الإجراءات الأساسية لمقاربة ملف السوريين المقيمين في لبنان عبر تدابير يمكن للسلطات اللبنانية الشروع بتنفيذها داخل الحدود الوطنية بمساعدة المجتمع الدولي ودعمِه لِخططِها. وتستلزم هذه التدابير ما يلي:
(أ) – تكليف المديرية العامة للأمن العام إجراء مسح وتسجيل جميع السوريين المقيمين على الأراضي اللبنانية بمساعدة من ترتئيه من المؤسسات الوطنية من بلديات وجهات مختَصّة أُخرى. وعلى عمليات المسح والاستطلاع أن تشمل لكل فردٍ وعائلته الاسم والعمر ومستوى التعليم والمهنة والعنوان ومكان الإقامة في لبنان، إضافةً إلى البلدة والمنطقة التي غادروها في سوريا وتاريخ وطريقة ومكان دخولهم لبنان.
(ب) – نزع صفة “اللجوء” التي أضفته المفوضية على النازحين المدرجين على قوائمها والذين يعبرون الحدود ذهاباً وإياباً إلى سوريا، مع اتخاذ الاجراءات اللازمة بشأنهم بما فيه عدم السماح لهم بالعودة إلى لبنانَ مجدّداً. علاوة على ذلك، سيكون من الضروري السيطرة على دخول السوريين غير القانوني ومنعه، الأمر الذي يتطلّب استثمارات مهمّة في التكنولوجيا والمعدات، فضلاً عن نشر قوات إضافيّة في مواقع مختارة على طول الحدود [فقرة ٣ (ب) أعلاه].
(ج) – ترحيل السوريين الصادرة بحقِّهم أحكام قضائية لارتكابهم جرائم. أما أولئك الذين يخشون على سلامتهم إنّ رُحِّلوا إلى سوريا، فسوف يُعْهَد إلى المفوضية متابعة أمرِهم إن كانوا مسجّلين على لوائحها المسلَّمة الى الامن العام. وللإشارة يفوق عدد السجناء من السوريين ٢،٨٠٠ ، ما يُمَثِّل أكثرَ من ٣٠٪ من الموقوفين في سجون لبنان ويُزيد من اكتِظاظِها.
(د) – إخضاع جميع المواطنين السوريّين غير المُدرَجين على قوائم المفوّضية، لقوانين الإقامة والعمل والممارسات التجارية في لبنان، فيساهم ذلك في تنظيم وجودهم على الأراضي اللبنانية، والتأكّد أنّ اقامتهم وعملهم يستندان الى قوانين الإقامة والعمل والاستثمار، ما يساهم إيضاً بحماية حقوقهم الإنسانية وحقوقهم كعمال، والتأكّد أنّ أنشطتهم لا تخلق منافسةً غيرَ عادلةٍ للعمّال وأرباب العمل اللبنانيين على حَدٍ سواء. ذلك أنه إضافةً للازدحام السكاني، أدّى وجود المهجَّرين العارم في لبنان لفترة طويلة، إلى ضغط شديد على المواطنين اللبنانيين ومنافسة ضروس أخرجت العديدَ منهم من أسواق العمل في عقرِ دارهم. وقد أدّى ذلك إلى تأجيج الصراعات الاجتماعية وخلق هوَّة من الجفاء والعداء مع المجتمعات اللبنانية المضيفة، لا سيما في ظل الوضع الاقتصادي القاهر الذي يعاني منه الشعب اللبناني.
. على لبنان إعادة تصويب سياستِه تجاه وجود النازحين إلى نهجٍ هدَفُه تقليص عددهم وعودتهم إلى سوريا، عوضاً عن نهجٍ يبغي زيادة المساعدات المالية، والتي لا تَصِل سوى قطراتٌ منها إلى المجتمعات اللبنانية المضيفة. وإن تأخر الأمر عشر سنوات ونيِّف، على لبنان إيجاد الترتيبات اللوجستية والقانونية والأمنية المؤاتية لإدارة ملف النازحين السوريين المسجّلين والمدوّنين لدى المفوّضية. فمنذ نشوب حرب سوريا، لم تَؤل سياسة لبنان الخجولة والمترنِّحة – في ظلِّ تباين الرؤى بين مكوِّنات المجتمع وغياب موقف موحّد لديها إزاء قضيّة النزوح، مع اعتِماد مستوىً موحداً من الخدمات العامة للمواطنين والنازحين – سوى إلى تشجيع توافد السوريين لأسباب جُلُّها اقتصادية إلى لبنان حيث معدّل الدخل الفردي، أي مستوى المعيشة، كان (وما زال، بما فيه نتيجة العقوبات) أضعافَ ما هو عليه في سوريا. كما آنّ إقامة النازحين السورييّن في لبنان غير مقيدة على الإطلاق، عكس ما هو عليه الحال في الأردن والعراق وتركيا حيث، إضافةً، يَجِب على الرعايا السورييّن الحصول على تأشيرات دخول مُسبقة، فيما هم مَعْفون منه في لبنان. وقد تجلّت سياسة اللامبالاة هذه من خلال الوتيرة الثابتة لتوافد النازحين إلى لبنان بغضِّ النظر عن الواقع الميداني في سوريا أبان سنوات الحرب. فإن احتدمت المعارك أو هَدَأ القتال، كانت التدفقات إلى لبنان تستمرّ دون هوادة، بما في ذلك من مناطقَ خارج مواقع النزاع، أو ليست الأقرب إلى لبنان (كحلب مثلاً، البعيدة ٣٠٠ كلم عن لبنان، فيما هي على قاب قوسَيْن من الحدود التركية).
. تجميع ودمج المخيّمات المنتشرة عشوائيا ضمن بضعة مراكز منظّمة تُستحدث على مشاعات الدولة. يجب على لبنان، وإن تأخَّر في هذه العملية، أن يعيد النظر في الترتيبات اللوجستية الحالية – التي نشأت تلقائياً نتيجة غياب التخطيط – المتعلقة بإقامة النازحين السوريين المسجّلين والمدوّنين على لوائح المفوضية المُسَلَّمة إلى الأمن العام، والمنتشرين بكثافة على امتداد الأراضي اللبنانية في المدن والبلدات والقرى والأحياء في مساكن مكتظَّة، بالإضافة إلى حوالي ٤،٣٠٠ من المخيّمات المنتشرة عشوائياً مع كثافة رئيسية في محافظتي الشمال والبقاع. لِذا لابد من النظر بجدية إلى إنشاء مراكز منظَّمَة لإيواء النازحين تحت عهدة وتمويل المفوّضية، ورقابة السلطات الأمنية اللبنانية، على مثال مخيم الزعتري في الأردن حيث يقيم أكثر من ٨٠ ألف لاجئ سوري. ذلك يُسَاهم: أولاً، في تسهيل تنفيذ خطط اعادتهم الى ديارهم بشكل مُنَظَّم وآمن، واعادة توطين الاخرين منهم الى بلد ثالث (تبعاً للمرسوم رقم ١١٢٦٢ تاريخ ٣٠/١٠/ ٢٠٠٣)، ؛ ثانياً، في تحسين وترشيد إيصال مساعدات الجهات المانحة للنازحين من حيث الفعالية والتكلفة؛ وثالثاً، في الحفاظ على البيئة وموارد لبنان الطبيعيّة لوجود المجَمَّعات العشوائية في الحقول وقرب مجاري المياه التي تتحوّل إلى مكبّات للنفايات والمياه الآسنة. ومن الأفضل في هذا الإطار إقامة المخيّمات على مقربة من الحدود السورية تسهيلاً للتنسيق الميداني مع السلطات السورية لتمكين الذين غادروا سوريا وسُجِّلوا او دُوِّنوا على لوائح المفوّضية، من العودة عبر الحدود، وهو المبتغى في نهاية المطاف. ويمكن أن يبدأ ذلك برحلاتٍ منظّمة على دفعات لنقل المقيمين من المجمَّعات العشوائية إلى المراكز الرسمية المستحدثة. وإلى أن يعود النازحون إلى سوريا، ستكون هذه المراكز المنظَّمة، وهذه وحدها، موقعاً لتقديم المفوّضية خدماتها المموّلة من الجهات المانحة، من تعليم، ورعاية صحية، وحيث تسمح الظروف، أنشطة مولّدة لفرص العمل لا تُشَكِّل منافسة لليد العاملة اللبنانية. وكما هي السياسة المتّبعة في مختلف بلدان العالم، فإن واجب لبنان الإنساني والأخلاقي كدولة عبور يتلخّص في تأمين الخدمات الحيوية للنازحين ــ دون ربطها بالخدمات المتوفرة للمواطنين ــ انطلاقاً من الاعتبار أن إقامتهم مؤقتة في انتظار أول فرصة آمنة للعودة إلى ديارهم. ويستحق مبدأ إنشاء مراكز رسمية ضمن الأراضي اللبنانية للسوريين المسجّلين والمدوّنين لدى المفوّضية تحت إدارتها وتمويلٍ من المانحين، ورقابة مباشرة من السلطات اللبنانية وخاصة الأمنية منها، أن يُنظَر إليه على أساس جدواه على رغم الحذر من فكرة “المخيَّمات” لدى العديد من اللبنانيين الذين يستذكرون التجربة الفلسطينية، ويخشَوْن أن تتحول هذه المجمّعات في المستقبل إلى بؤرٍ عصيًة من العوز والتشدُّد تخرج عن سلطة الدولة وتقوِّضُها.
رابعاً – ما من هدفٍ أسمى من الحفاظ على الهوية الوطنية
١١. وإن تأخر الأوان، لقد ظهر إجماع وطني راسخ لمقاربة مشكلة النازحين واحتوائها بهدفٍ واحد لا لُبْسَ فيه، وهو عودتهم إلى وطنهم. ويرتكز هذا على حقيقة بديهية مفادها أنه في لبنان، حيث تجاوز عدد السوريين نصفَ عددِ المواطنين المقيمين، لا يمكن أن يكون دمج النازحين في النسيج الوطني خيارًا لأن نتيجته الحتمية ستكون تذويب الأقلِّية اللبنانية التي تتقلَّص يوماً بعد يوم ضمن أغلبية سورية تزداد دون هوادة. لِذا على لبنان المثابرة في مناشدة المجتمع الدولي متابعة تقديم المساعدات للعائدين داخل سوريا لفترةٍ من الزمن، رغم أن مناشدته لم تَجِد صدىً حتى الآن. وفي حين يجاهر المجتمع الدولي بحرصِه على كيان لبنان واستقراره وأمنه، فإن موقفه الفعلي – الذي تمليه من جهة علاقتُه المتأزّمة مع الحكومة السورية وعدم الثقة بها لحماية العائدين، ومن جهة أُخرى مصلحتُه في إبقاء النازحين في بلاد الجوار بعيداً عن حدوده وشواطئه – يتجاهل كلّياً ما قد يكون لاستمرار الوجود السوري الكثيف من ارتدادات وعواقب على لبنان، من وقعٍ على اقتصاده، وتأثيرٍ على بيئته، وتقويضٍ لاستقراره وتماسكِه الاجتماعي وسلمِه الأهلي، وفي المدى المنظور، تذويبٍ لهويَّته الوطنية.