هو ملف سبق وأن فتحناه في حزيران 2023. عن الاستيلاء السياسي على المستوصفات الحكومية التابعة لوزارة الصحة تحت ستار العمل الخيري، وبمباركة من الأخيرة، نتحدّث. فصفقات المستوصفات تلك ومراكز الرعاية الصحية الأولية ما زالت قائمة على قدم وساق. وزير الصحة، الدكتور فراس الأبيض، ورئيس جمعية بيروت للتنمية الاجتماعية، أحمد هاشمية، هما المعنيان الرئيسيان. والكلام عن «رشاوى» لموظفي القطاع العام والبلديات والمؤسسات العامة يكثر. أما اتفاقيات الضمان الصحي وبطاقات التأمين للعلماء والجهازَين الديني والإداري التابعَين لدار الفتوى، فآخر التجلّيات.
نبدأ بإعادة التذكير بتلزيم مستوصفَي الطمليس (في بيروت) وطرابلس اللذين تديرهما وزارة الصحة مباشرة، إلى جمعية بيروت للتنمية الاجتماعية. حصل ذلك دون الرجوع إلى هيئة الشراء العام ولا حتى استدراج عروض، لا بل من خلال عقود بالتراضي بين الأبيض وهاشمية (المحسوب على تيار «المستقبل»). في حين أن الوزارة ما زالت تواصل تسديد بدلات الإيجار ورواتب الموظفين.
وقتها، سألنا كيف للمستثمر التحكّم والانتقاء في اختيار المستفيدين من دواء يحقّ لكل مواطن لبناني الحصول عليه من مستوصفات وزارة الصحة. وحملنا الملف إلى هيئة الشراء العام التي كانت قد تقدّمت بكتاب استفسار إلى الوزارة بتاريخ 09/05/2023 طالبة شرْح أسباب عدم الإعلان عن عقد اتفاقية التعاون وعدم نشْر أي سند قانوني وكافة المستندات المتعلّقة بالعقد الموقّع بين الطرفين. وبعد عشرة أشهر، جاء ردّ الوزارة بتاريخ 04/03/2024 مليئاً بالمغالطات والمخالفات، بحسب أوساط وزارية متابعة. أما هيئة الشراء العام، فما زالت بصدد دراسة الملف وستصدر تقريرها خلال أيام، كما أكّد لنا رئيسها، الدكتور جان العلية.
لم يكتفِ هاشمية بصفقات المستوصفات إنما، مستفيداً من غياب أي حسيب أو رقيب، فهو يستكمل استباحة القوانين من خلال برامج دعم تقدّمها جمعية بيروت للتنمية الاجتماعية لموظفي القطاع العام والأوقاف والمؤسسات العامة، ومنها المستشفيات الحكومية والبلديات والدوائر الرسمية وغيرها، وسْط خرق فاضح للقانون. وقد كلّل أعماله تلك في 3 نيسان الحالي حين سلّم مفتي الجمهورية اللبنانية، الشيخ عبد اللطيف دريان، في دار الفتوى، اتفاقية الضمان الصحي وبطاقات تأمين صحية للعلماء والجهازَين الديني والإداري التابعَين للدار على صعيد بيروت، واعداً بإنشاء صندوق تعاضد صحي لهم. كما كشف أنه سيتمّ افتتاح ستة مستوصفات للرعاية الصحية في عدّة مناطق، منها بيروت، بالتنسيق مع وزارة الصحة، وأنه يتواصل مع البلدان المانحة لبناء شراكات مع الخارج.
مصادر متابعة للملف أشارت لـ»نداء الوطن» إلى أنّ ما يقوم به هاشمية يُعتبر تخطياً للتعميم رقم 13 الصادر عن مجلس الوزراء بتاريخ 16 أيار 2012 والذي يقضي بضرورة حصول الإدارات والمؤسسات العامة على موافقة مسبقة من الوزارة المعنية قبل استلام أي هبة أو مساعدة، عينية كانت أم مادية. فعلى المستشفيات الحكومية، مثلاً، الحصول على موافقة وزارة الصحة، أما البلديات فتحتاج لموافقة وزارة الداخلية، وهكذا دواليك. «لكن ما يقوم به هاشمية يُظهر بوضوح «إنو فاتح ع حسابو وفي مين مغطّيه» لأغراض سياسية بحتة. وكل ما نراه من ممارسات إنما يندرج ضمن خانة «الرشاوى» الانتخابية في حين أنه يبيع أدوية الوزارة داخل المستوصفات بعد أن قام برفع التعرفة دون أي وجه حق».
وتساءلت المصادر نفسها ما إذا كانت هذه الهبات تخالف أيضاً التعميم رقم 06/2023 الصادر عن رئاسة مجلس الوزراء بتاريخ 06/03/2023، والذي حدّد ونظّم آلية قبول جميع الإدارات العامة للهبات المالية والنقدية التي يقدّمها أشخاص معنويون وحقيقيون، كما التعميم رقم 14/2023 الصادر بتاريخ 26/05/2023 عن نفس الجهة أيضاً والمتعلق بالهبات المقدَّمة للدولة ومؤسساتها، بعد أن تبيّن وجود مبالغ طائلة عائدة لهبات مقدَّمة لإدارات عدّة خلال السنوات الماضية شابها كمّ كبير من الملاحظات لجهة منحها أو قيدها أو حتى صرفها.
طرْد موظفين وبيع أدوية
بالعودة إلى المستوصفات ومراكز الرعاية الصحية، تستغرب جهات وزارية كيف تجاوَب الوزير الأبيض مع طلب جمعية خاصة لإدارة عدد من المستوصفات الصحية المحدَّدة بالأسماء في عدد من المناطق، ولمدّة 25 سنة رغم أن كافة العقود تُوقَّع لمدّة ثلاث سنوات قابلة للتجديد. هذا إضافة إلى أن مبنى مستوصف الطمليس الحكومي تابع لبلدية بيروت وقد طالبت الأخيرة أكثر من مرة وزارة الصحة باسترجاعه دون أي تجاوُب. أما مستوصف طرابلس الحكومي، فمستأجَر من الغير لصالح وزارة الصحة ولا يحقّ للوزير تسليمه لأي طرف ثالث. مخالفات بالجملة حصلت دون موافقة رسمية، إن من الدولة أو بلدية بيروت أو حتى مالكِي العقار، حيث تعامَل الوزير مع المسألة تعامُل المرء مع الملكية الخاصة.
توجّهنا لأحد الموظفين السابقين في مستوصف الطمليس، وهذا ما أخبرنا: «قبل تلزيم المستوصف كنّا نتقاضى رواتبنا من موازنة وزارة الصحة. أما بعدها، فراح يجري التضييق علينا من قِبَل الجمعية من أجل ترْك العمل وإفساح المجال لتوظيفات جديدة على قاعدة المحسوبية والواسطة. ويتمّ بيع أدوية الوزارة في المستوصف، بدلاً من أن تُوزَّع مجاناً، وهنا الفضيحة الأكبر. فلو أراد الوزير إبداء حسن نية، لكان طلب من صاحب الجمعية دعم المستوصف مالياً وتحسين وضعه ووضْع الموظفين فيه بدلاً من إكمال الصفقة والتصرّف بأملاك الدولة حيث كنّا نحن أول من دفع الثمن».
الحقّ على الدولة والوزارة
محطتنا التالية مع رئيس لجنة الصحة النيابية السابق، الدكتور عاصم عراجي، الذي أسف في حديث لـ»نداء الوطن» أن يتمّ إعطاء التراخيص وتلزيم المستوصفات الحكومية بهذا الشكل العشوائي. «بتنا نرى بين المستوصف والآخر، مستوصفاً ثالثاً. فالأعداد أمست غير مقبولة وهي لا تخضع لأي رقابة فعلية. ما يحصل هو منْح رخص لجمعيات تهتمّ بمساعدة النازحين السوريين، أي أنها تحصل على مساعدات وهبات من الجهات المانحة، وتحويل المستوصفات إلى مراكز رعاية صحية تعنى بالسوريين كما باللبنانيين». الأخطر، ودوماً بحسب عراجي، أن هذه المستوصفات والمراكز تتعاطى مباشرة مع الجمعيات والمؤسسات المانحة دون الرجوع إلى وزارة الصحة. فالحقّ على مَن؟ «الحقّ على الدولة وعلى وزارة الصحة بشكل خاص، إذ هي المسؤولة عن المراقبة. لجنة الصحة النيابية ليست سلطة تنفيذية ولا تملك القرار. المؤسف أننا نسمع على لسان بعض المسؤولين أننا بأفضل أحوالنا بينما المحسوبيات السياسية والطائفية والمناطقية والمادية تتآكلنا من كل صوب».
بدورها، أفادت مصادر قانونية لـ»نداء الوطن» أن مراكز الرعاية الصحية – التي تخطى عددها الـ200 مركز – ليست سوى بدعة لتنفيع الأحزاب في مختلف المناطق اللبنانية، والدليل أن الكثير من الجمعيات الملتزمة بالشروط يتمّ رفض طلباتها لمجرّد عدم دورانها في فلك حزبي ما. «على الجمعية أن تتقدّم إلى وزارة الصحة بطلب تحويل المستوصف إلى مركز رعاية صحية أولية. فإذا توافرت الشروط المطلوبة، تحصل الموافقة على الطلب وتقوم الوزارة بتقديم الأدوية والمستلزمات والتجهيزات والدعم اللازم. غير أن المشكلة تكمن في حصر موافقات الوزارة بالجمعيات التابعة للأحزاب دون سواها. لقد أصبح واضحاً العمل التجاري الذي تمارسه هذه المراكز مستفيدة من مساعدات الجهات المانحة، وكيفية التحكم بالمواطنين إذ باتت الرعاية الصحية استنسابية».
ردّ الوزارة… Hors sujet
وهذه فضيحة أخرى تمثّلت بموافقة مجلس الخدمة المدنية، الشهر الماضي، على تسديد الوزارة بدلات الإيجار الخاصة بمراكز خدمة الرعاية الصحية في راشيا وحاصبيا وفي مركز ثالث تابع لآل أرسلان. وهنا ثمة من يسأل: إلى أي قانون تستند الوزارة لدفع إيجارات مراكز صحية خاصة وهي أعجز عن تسديد تكاليف المستشفيات لمرضاها (أي مرضى الوزارة)؟ ألا يُعدّ ذلك هدراً للمال العام تحقيقاً لتنفيعات سياسية على حساب المواطن؟ وأين القضاء وأجهزة الرقابة من تحمُّل مسؤولياتها وأين المستشار القانوني لوزير الصحة، عمر الكوش، من هكذا قرارات؟ ثم هل بدأ تطبيق الخصخصة السياسية في مؤسسات القطاع العام الصحي ما سيدفع باتجاه المزيد من التفكّك كما أعلن رئيس حملة «الصحة حقّ وكرامة»، النائب السابق الدكتور اسماعيل سكرية؟
في مطلق الأحوال، لم يأتِ ردّ الوزارة على الكتاب (المرفق) الموجّه إليها من هيئة الشراء العام، متأخراً فحسب، إنما ارتكز على مرسوم تنظيم العلاقة بين الوزارة والجهات المدنية المعنية بالرعاية الصحية، ويتضمن فقرة حسْن إدارة وتشغيل المراكز الصحية التابعة لها. وهو مرسوم لا علاقة له بـ»صفقة المستوصفات»، وفق ما شدّدت مصادر وزارية مطّلعة، بعد مراجعتنا لها. وأضافت: «في حال سلّمنا جدلاً بأن التناقض الحاصل بين عنوان المرسوم النافذ وبين النص المتعلّق بالمراكز الصحية التابعة للوزارة، يمكن لفت النظر إلى أن المركز الصحي يختلف عن المستوصف الحكومي. فالمراكز الصحية الحكومية يصدر تنظيمها بموجب مراسيم مستقلة. أما الجمعية المعنية، فمتعاقدة مع الوزارة لتشغيل مستوصفات حكومية مركزية في بيروت وطرابلس وليس مراكز حكومية. هدف المستوصف الحكومي والغاية منه يختلفان بالشكل والتنظيم عن المراكز الخاصة أو حتى الحكومية. فتسليم المستوصفات الحكومية بحاجة إلى قانون خصخصة، لا إلى توزيع حزبي عشوائي بقرار من الوزير وكأنها ملك له».
بحسب معلومات «نداء الوطن»، تقدّم هاشمية بطلب «وضع اليد» على مزيد من المراكز الصحية الأولية والمستوصفات الحكومية التابعة للوزارة في البقاع والجنوب ومناطق أخرى. فهل تتحرّك هيئة الشراء العام بإزاء ذلك، أم نحن على موعد مع مزيد من المخالفات والصفقات و»الرشاوى»؟