التحوّل الاستراتيجي الذي شهده لبنان ويشهده منذ 8 تشرين الأول 2023، لا يقارن بالتحولات التي شهدها في ثلاث محطات أساسية:
المحطة الأولى في العام 1982 وأدت إلى إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وانتخاب مؤسِّس “القوات اللبنانية” بشير الجميل رئيساً للجمهورية، ولكن اغتياله أعاد الأمور إلى المربّع الأول، فسقط حلم لبنان الوطن لمصلحة استمرار لبنان الساحة.
المحطة الثانية في العام 1989 مع اتفاق الطائف الذي حصل برعاية دولية وعربية وخليجية وكان الهدف منه إنهاء الحرب اللبنانية، وإعادة الاعتبار لدور الدولة الوطني والسيادي، ولكن النظام السوري نجح في ضرب “مومنتم” التطبيق، فانشغل العالم بحرب الخليج الثانية، فـ “طارت” نسخة الاتفاق اللبنانية، وحلّت النسخة السورية محلّها.
المحطة الثالثة في العام 2005 مع انتفاضة 14 آذار وخروج الجيش السوري من لبنان، ولكن تأجيل مسألة سلاح “حزب الله” التي كان يجب ان تحلّ مع الخروج السوري، أدى إلى تضييع “المومنتم” وإبقاء لبنان ساحة نفوذ متقدمة لإيران.
والفارق بين التحول الأخير والتحولات السابقة أن إبقاء “القديم على قدمه” أصبح مستحيلاً بسبب القرار الأميركي والدولي بأن لبنان لن يبقى ساحة لإيران، ولن يبقى قاعدة عسكرية لـ “حزب الله”، وأن قوة الحزب العسكرية دمِّرت، وعمقه السوري حيَّد نفسه وهو أساساً في حالة انعدام وزن، وعمقه الإيراني يبحث عن حماية رأسه بعدما وصلت الأمور إلى حد تخييره بين التخلي عن دوره، وبين سقوطه.
وتأسيساً على ما تقدّم كله، من الواجب والضروري الاستفادة من الاهتمام الدولي غير المسبوق وغير القابل للانعكاس هذه المرة، بهدف تحصين الوضع اللبناني من خلال 4 خطوات أساسية:
الخطوة الأولى، إعلان دولي واضح صادر عن مجلس الأمن بأن الاستقرار اللبناني هو شأن دولي، وأي محاولة من أي دولة للتدخُّل في شؤونه، أو تسليح إحدى مجموعاتها، ستواجه بالقوة، وأن الحدود الدولية للبنان ستكون بحماية دولية ولبنانية في آن معاً، لأن لا ضمانة لديمومة الاستقرار اللبناني سوى دولية، ومن مصلحة المجتمع الدولي أن يتحمّل هذه المسؤولية إذا كان حريصاً على استقرار المنطقة، لأن البنية اللبنانية تشكل مدخلاً لتخريب الاستقرار الإقليمي.
الخطوة الثانية، تحويل الدولة اللبنانية إلى دولة لامركزية، فالخطأ التاريخي بإرساء دولة مركزية في مجتمع تعدّدي حان الوقت لتصحيحه، والوقت اليوم أكثر من مناسب ومن الخطيئة تفويته مجدداً، خصوصاً أنه المولِّد الأساس للنزاعات التي عرفها لبنان منذ تحوّله إلى كبير، فضلاً عن أن اللامركزية توفِّر الخدمة الأفضل للمواطن ومستلزمات الراحة الوجودية والنفسية.
الخطوة الثالثة، وضع المعايير المطلوبة للدولة المركزية التي تسهر على الأمن والمال والخارجية، فتكون معايير الكفاءة والجدارة هي الفيصل والأساس، لأن الدولة بعد نصف قرن من الانهيار بحاجة إلى إعادة بناء على أسس عصرية جديدة.
الخطوة الرابعة، ربط لبنان عضوياً بمشروع خارجي يبدأ في واشنطن ولا ينتهي في الرياض، فلا ضمانة للبنان سوى في الدور الذي يقدِّمه، وفي انخراطه في مشروع مصلحة دولي وإقليمي.
لبنان أمام فرصة تاريخية لعودته دولة طبيعية، وللمرة الأولى منذ العام 1965 سيكون خالياً من التدخلات الخارجية، ولكن لا يجب تفويت “المومنتم” الذهبي المتمثِّل بالتحولات الاستراتيجية والاهتمام الدولي الفريد من نوعه من أجل تحصين لبنان إن من خلال التدويل الفعلي العسكري، أو عبر إدخال تعديلات جذرية في النظام، وما بينهما تحويل دوره إلى حاجة دولية وإقليمية، فيما إبقاء “القديم على قدمه” بحجة “الوحدة وحروب الغرباء والشعب العظيم” يعني مواصلة الدوران في حلقة الفشل نفسها، وإبقاء التربة اللبنانية خصبة للتماهي مع المشاريع التخريبية.