الجمعة 19 رمضان 1445 ﻫ - 29 مارس 2024 |

برامج

شاهد آخر حلقاتنا اونلاين

شبل ياسين الذي وقع في بحر "مكافحة الشغب"

وثّق الزميل المصوّر في “أسوشيتد برس”، حسين الملّا، لحظة استثنائية من القمع الوحشي في بيروت. صورة للبطش الذي باشرت به القوى الأمنية، بغطاء سياسي كامل، لثورة 17 تشرين.

 

باتت الصورة أيقونة للقمع، ببساطة: شاب يصرخ بين بحر من عناصر مكافحة الشغب وكل ما ينبض فيها من حقد وضرب. وكأنها جيش من المدمّرين الفضائيين، غريب بتكاوينه وطاساته ودروعه وهراواته. نزل الأرض غازياً، وعاث بها فساداً. وثم يخرج من في السلطة، وتحديداً المخلوعين عن كراسيهم منهم، ليقولوا للناس إنّ هؤلاء من البشر، يشعرون ويتعبون وينعسون. لكنّهم يقمعون أيضاً، ويسحلون ويضربون ويطلقون النار ويصيبون الجمهور بأعطاب دائمة وعاهات جسدية.

تجسّد صورة الزميل الملّا أيقونة لعهد جديد من القمع افتتحته السلطة قبل أسبوع. واحدة من أيقونات عديدة في ثورة 17 تشرين. منها الجميل بألوانه وأفراح ناسه. منها المتنفّس بالانتصار على قامع أو سياسي فاسد، ومنها المخزي بألمه وصرخات ضحاياه. بطل أيقونة القمع هذه، شبل ياسين، شفى وبات حراً وعاد إلى نشاطه النضالي بعد ساعات التوقيف.

لحظة خنق 1
“لم أكن أصرخ، بل أختنق”، يقول شبل. فكان يتعرّض للخنق من أكثر من يد ومن أكثر من عنصر. لم تأت لحظة القمع تلك من فراغ. سبقها ضرب للمتظاهرين واعتداءات عليهم، ولحق بها السحل والرصاص المطاطي. هي جزء من حلّ أمني تحاول السلطة فرضه، السلطة القديمة أو الجديدة لا فرق بينهما. فمن فيها يغطّي القمع، ومن ليس مشاركاً يريد المحافظة على امتيازاته السلطوية. في تلك الليلة، أمام ثكنة الحلو انطلقت سياسة السحل لتأديب كل من يجرؤ على القول لا. وكان شبل أحد هؤلاء المتجمهرين في محيط الثكنة للمطالبة بالإفراج عن الموقوفين في شارع الحمرا. وقف في الصف الأمامي وكان يتحدّث إلى ملازم أول في قوى مكافحة الشغب “بشكل طبيعي وعادي جداً، وحصل تدافع بسيط، وفجأة أجد أنّ ثمة من سحبني”. اختفى في غابة من المدمِّرين الفضائيين- بمشاعر بشرية، وتعرّض للخنق. تعرّض لـ”الضرب الوحشي وتم سحلي إلى الثكنة”، وفي الداخل عاد الضابط نفسه وتدخّل لإطلاق سراحه. لكن الخنق الأول قد تمّ.

لحظة خنق 2
خرج بعد دقائق بمعيّة الضابط المسؤول المدرك أنّ لا شأن لشبل بما حصل. جلس على الرصيف المقابل مع بعض أصدقائه، فتركته إحدى صديقاته وراحت للاحتجاج أمام عناصر مكافحة الشغب على ما حصل. فـ”انهال عليها بالضرب، وتدخلّت لإبعادها”. وفعل مماثل يستوجب القمع مجدداً. فكانت ضربات هراوات لا تعدّ ولا تُرد. اختفى شبل في الغابة نفسها مجدداً، وكانت أيقونة القمع التي خرجت علينا بعدسة الملّا. خنقوه مجدداً وسحل مرة أخرى. “قلت له أنا اختنق يا وطن مش عم يطلع صوتي”. “الوطن” يريد خنق هذا الصوت تحديداً، صوت يصدح “لا” للفساد والقمع والثقة والترهيب والنهب. قد يكون كل ما حصل مجرّد ثوان، إلا أنّ فيه ما يكفي لكتابة معلّقات عن البطش والتعريف به. “انا اختنق يا وطن”، فكان رد عنصر زميله القابض على عنق شبل “معليش ما بيأثّر، عمره ما يرجع”. فتعاونوا على خنقه وضربه، رموه أرضاً وانقضّ أحد المدمّرين عليه خنقاً من جديد. أفلتت الضحية منه، فوقف وداس على عنقها بحذائه العسكري وقام مدمّرون آخرون برفسه أينما كان وكيفما كان. مشهد يلخّص الحل السلطوي المطلوب، مكرّر ومنسوخ عن أنظمة قمع سقطت وأخرى لا بد أن تسقط. مشهد يبرّر للناس المنتفضة في كل لبنان، كل أفعالها وعنفها وحجارتها. فالنظام كان ينهبهم ويجوّعهم ويحرمهم من الوظائف والحقوق البديهية، وبات يخنقهم ويشرع بقتلهم. كان يعتمد مبدأ الموت البطيء، وإذ به يحاول الإجهاز عليهم.

استكمال المشهد
يقول شبل إنّ هذا “الخنق” والقمع تكرّر مع معظم الذين سُحلوا إلى داخل ثكنة الحلو، “بهدلة وتعنيف بشكل غير طبيعي”. والعناصر المعتدية كانت حصراً من قوى مكافحة الشغب (أو مكافحة الشعب، كما يقترح البعض)، أي جيش المدمّرين. وعند نقل الموقوفين إلى داخل الغرف “لحسن حظي أنّ العنصر المولج مرافقتي كان من عناصر المخفر، كان يضع بيريه حمرا، قلت له أني موجوع فعاينني ورافقني بهدوء”. كان شبل يعرج، “فحملني إلى الداخل واهتمّ بي”. لماذا كل هذا الحقد من قبل عناصر مكافحة الشغب. “ربما لأنهم منذ أسابيع مستَنفَرين. ولذا هم حاقدون ويريدون الراحة والعودة إلى منازلهم، ففشّوا خلقهم بنا”. هل ثمة أوامر صدرت لمكافحة الشغب لتعنيف المتظاهرين؟ لا يملك شبل الجواب أيضاً، بل تساؤلاً “إذا هم حاقدون ثمة مشكلة، لأنهم بذلك يعبرّون عن غيظهم من شعبهم، وإذا أوامر فهذه مشكلة أخرى”. لكن كما هو واضح مما شهده هو وغيره من الموقوفين، ثمة قرار بكسرهم جسدياً ومعنوياً وتحطيم عزيمتهم، علّ الناس لا تكرّر رفض ما تقدمّه لها السلطة.

ابن برج البراجنة
بعد إطلاق سراحه، عاد شبل فوراً إلى ساحات الاعتصام. كان نزيف جرح رأسه قد توقّف فلم يشأ إضاعة الوقت. هذا ردّ على نيّة السلطة كسر الناس وعزيمتها. فكلما زاد القمع، زادت إرادة الناس في الحرية. تاريخ ثورات العالم يقول ذلك. عاد شبل إلى الساحة، “لاستكمال ما بدأنا به، نحن لسنا على خطأ وليس لدينا ما نخسره”. خسرنا كل شيء في البلد، المال والكهرباء والهواء والمياه والوظائف والطبابة والتعليم… “المطاطي سنشفى منه، الغاز سيزول مفعوله، الجروح ستلتئم، لكن حقنا إذا ضاع لن يعود”. وكذلك ثورتنا، إذا ضاعت فلن تعود في وقت قريب.

شبل ابن برج البراجنة، مدرّب رياضي وتعلّم التربية البدنية وتحضير الرياضيين والإدارة الرياضية في الجامعات، عمره 38 عاماً. هو ابن الضاحية لكن لا ينسجم مع بيئتها. “تعرّفت إلى ديني في المدارس فقط”، وفي البيت “تربيّت على قاعدة أخذ الخيارات بعيداً عن الاستزلام والأحزاب والطوائف”. لا يخاف كونه مختلفاً عن بيئة الضاحية، “فما نتعرّض له هنا من قمع ومطاطي على وجوهنا ممكن أن أموت فيه هنا، أو أموت فيه هناك، أفضّل المطالبة بحقوقي على السكوت والانصياع وراء عباد الأحزاب والسياسيين”.

شبل ياسين، بصرخته وبخنقه، بات بطلاً وأيقونة من أيقونات قمع السلطة للناس في ثورة 17 تشرين. مستمرّ في الثورة ومع من فيها حتى تحقيق المطالب. وإذا لم يحصّل هذه الحقوق اليوم، سينالها أبناء أخوته في المستقبل. هذا ما يقوله، وهذا أكثر ما يغضب سياسيي السلطة وشركائها في المعارضة المفترضة. هؤلاء سيصعدّون القمع، يوماً بعد آخر، لكن أبطال أيقونات الثورة يكسرون الخوف مرة تلو الأخرى. هذه قاعدة من قواعد الثورات التي نتعلّمها في 17 تشرين محطة بعد أخرى.