طاولة الحوار في قصر بعبدا
يعكس تَحَوُّل ما كان يمكن أن يشكّل «بدايةَ هدنةٍ» على خط رئيسيْ الجمهورية ميشال عون والبرلمان نبيه بري إلى «ذخيرةٍ» إضافية في «حربهما» المفتوحة (التي لا يغيب عنها «حزب الله») حجمَ المشكلةِ في «العلاقةِ المستحيلةِ» بين رجليْن ورئاستيْن المحكومةِ بصراعٍ «بمفعول رجعي»، كما ذات صلة باستحقاقاتٍ مستقبليةٍ، يُخاض بـ «حواضر الساعة» من ملفات وعناوين شائكة، وتعثّرت على وهجه حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في أول خطواتها، حتى باتت أسيرة «النيران الصديقة» لمكوّناتها في موازاة رَمْيها في فوهةِ أزمةٍ يزداد «لهيبُها» مع دول الخليج العربي رَبْطاً بوضعية «حزب الله» خارج الدولة وانغماسه في صراعات المنطقة.
ورغم أن المناخاتِ الجدّيةَ التي أعقبتْ موافقةَ عون على توقيع مرسوم فتْح دورة استثنائية للبرلمان خلصتْ إلى أن الأمر جاء من باب كسْر رئيس الجمهورية عملية محاصرتِه بعريضةٍ نيابيةٍ ستلزمه بالتوقيع، وأن هذه الخطوة «الاضطرارية» في عمقها والتي شكّلتْ نقاطاً ثمينة لبري وفريقه لم تترافق مع تفاهماتٍ على أن يكون «مقابلها» تعليق الثنائي الشيعي قرار منْع انعقاد جلسات الحكومة «لمرة واحدة» لإقرار مشروع موازنة 2022، فإن الأوساطَ السياسيةَ تَفاجأتْ بأن مهْرَ عون المرسوم بتوقيعه صار «شرارةً» جديدة في احترابه الدائم مع رئيس مجلس النواب، بدا معها الأول وكأنه ينقل «المنازلة» إلى «عقر دار» بري مفجّراً سجالاً راوح بين رفض «الوصاية» الرئاسية على برنامج الدورة الاستثنائية وبين الاعتراض على «حصرية صلاحية» البرلمان في وضْع هذا البرنامج.
وفي التدقيق بخلفيات «التطاحن» الجديد، الذي يلتقي فيه الطرفان على أنه يجوز للبرلمان عبر هيئة مكتبه إضافة بنود إلى جدول أعمال الدورة الاستثنائية من خارج ما حدده مرسوم فتْحها (وقّعه أيضاً رئيس الحكومة)، أن هذا المرسوم وفي موازاة تفنيده المواضيع التي تتطلّع إليها الحكومة من وراء الانعقاد الاستثنائي لمجلس النواب (حتى موعد دورته العادية في مارس المقبل) قيّدتْ البرلمان في البنود التي يمكن إدراجها عبر هيئة مكتبه وحصرتْها بالإطار الذي ورد في نص المرسوم وهو «مشاريع أو اقتراحات القوانين الطارئة والمستعجلة والضرورية المتعلقة بالإصلاحات اللازمة والضرورية أو بخطّة التّعافي المالي أو بالأوضاع المعيشية الملحّة التي يقرر مكتب المجلس طرْحها على المجلس، ومشاريع او اقتراحات قوانين ملحة تتعلق بالانتخابات النيابية».
وهذا ما دفع بري إلى إصدار بيان تحت عنوان «المجلس سيّد نفسه»، مؤكداً أن البرلمان «لا يقيّده أي وصف للمشاريع أو الاقتراحات التي يقرر مكتب المجلس طرحها، ويعود لرئيس الجمهورية حقّ الرد بعد صدورها عن الهيئة العامة إلى المجلس.
هذا حكم الدستور وما استقر عليه الاجتهاد»، في موازاة تولي مصادر عون اتهام رئيس مجلس النواب بمحاولة «قضْم صلاحيات رئيس الجمهورية وفرض حصرية الصلاحية له كما درجت العادة منذ ما بعد الطائف، واجتهاده في هذه النقطة هو سياسي وليس دستورياً»، جازمةً أن «البرلمان ملزم بمناقشة جدول الأعمال الذي حدده المرسوم الصادر عن رئيسي الجمهورية والحكومة على أن يكون لهيئة مكتب المجلس حق إضافة البنود التي تراها الهيئة مع رئيس المجلس ضرورية على برنامج الدورة الاستثنائية».
وفي جانبِ خفّي آخر من المكاسرة الرئاسية، حرص عون على إلزام البرلمان بمناقشة وبتّ مشاريع قوانين وفق الأولويات التي سبق لرئيس الجمهورية وفريقه (التيار الوطني الحر) أن حدّدها إلى جانب «تسميته» اقتراح القانون المتعلق بوضع ضوابط استثنائية وموقتة على التحاويل المصرفية (الكابيتال كونترول)، وقانون استعادة الأموال المحوّلة الى الخارج، والأهمّ عقد جلسة مساءلة الحكومة (والرد على الأسئلة والاستجوابات)، وهو ما كان «التيار الحر» طالب به رداً على احتجاز بري و«حزب الله» جلسات مجلس الوزراء بانتظار بت قضية إقصاء المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار أو كف يده عن ملاحقة السياسيين، في موازاة امتناع ميقاتي عن الدعوة لجلسةٍ ما لم يضمن عدم مقاطعتها من الثنائي الشيعي تفادياً لتفجير الحكومة بصاعق فقدان الميثاقية.
وجاء «لي الأذرع» المتجدد بين عون وبري ليطرح علامات استفهامٍ كبرى حول إذا كان ميقاتي مازال متمسكاً بدعوة مجلس الوزراء لـ«جلسة الموازنة» أم أن «الهبّةَ الساخنة» الجديدة على جبهة الرئاستين الأولى والثانية أطاحتْ بـ«الفرصةِ شِبْه المعدومة» أصلاً لتسليف رئيس البرلمان هذه «الهدية» قبل إنهاء قضية بيطار، وسط أجواء عن أن وزير المال (محسوب على بري) قد يعمد إلى تأخير تسليم مشروع موازنة 2022 وذلك في إطار المزيد من «شراء الوقت» وتضييق الخناق على الحكومة ربْطاً بملف «بيروتشيما» وبمجمل المقاربة التي لا تمانع ترْك عهد عون يُستنزف بالأزمات حتى آخر يوم منه أو حتى تَحمل الانتخابات النيابية في 15 مايو المقبل ما يعتبره خصوم «التيار الحر» عودة رئيسه جبران باسيل الى «حجمه الطبيعي» نيابياً.
الحوار ناقص…
وفي موازاة ذلك، فإن طاولة الحوار التي أعلن عون عزمه الدعوة إليها لمناقشة اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة والاستراتيجية الدفاعية (سلاح حزب الله) وخطة النهوض المالي، بدأ ينفضّ من حولها، الواحد تلو الآخَر، القادة السياسيون الذين يفترض أن يشاركوا فيها، ما يعكس عدم رغبة خصوم العهد بالدرجة الأولى في تعويمه قبل نحو 9 أشهر على نهايته، ناهيك عن اقتناع هؤلاء بعدم جدوى، ما لم يكن في ضوء التجارب السابقة، إلا إما «حوار طرشان» وإما مقررات تنتهي بـ«نقْعها وشرب مائها».
وكان بالغ الدلالات أن يدشّن الرئيس السابق للحكومة زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري حلقة الرفض الرسمي للمشاركة في طاولة الحوار، كما في اللقاءات الثنائية التمهيدية التي سيعقدها عون، وذلك في اتصال هاتفي (جوابيّ على اتصال تلقاه من قصر بعبدا) أبلغ فيه رئيس الجمهورية اعتذاره عن عدم الحضور، مفضلاً أن يجري الحوار بعد اجراء الانتخابات النيابية، التي يُنتظر أن يحسم الحريري موقفه من المشاركة فيها أو عدمه قريباً بعد أن يعود إلى بيروت.
وبفقدان الحوار الغطاء السني، من الممثل الأكبر لهذا المكوّن في موازاة أجواء عن أن ميقاتي تمنى على عون التريث بالدعوة لهذه الطاولة في ضوء موقف الحريري الذي يتطابق أيضاً مع خيار حزب «القوات اللبنانية» وعلى الأرجح الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، يكون رئيس الجمهورية أصيب بندوب إضافية سياسية تكرّس شبه عزلته وفريقه، وسط اعتقادٍ بأن اللقاءات الثنائية التي سيبدأها غداً بجنبلاط ورئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية وما سيسمعه خلالها لن تعوّض الخسارةَ المعنويةَ التي سيشكّلها عدم قدرته على توفير نصاب انعقاد طاولة الحوار بمعزل عن المتوقَّع منها وإذا كان عون سيَمْضي بها أم لا.