الأربعاء 29 شوال 1445 ﻫ - 8 مايو 2024 |

برامج

شاهد آخر حلقاتنا اونلاين

زيادة الأجور... المستحيلة

خالد أبو شقرا - نداء الوطن
A A A
طباعة المقال

رفع موظفو القطاع العام “العشرة”، أمام التهديد بـ”قتلهم” على البطيء بانهيار القدرة الشرائية للرواتب والأجور. الإنخفاض التدريجي ‏في قيمة العملة من 1558 في آب 2019، إلى 23 ألف ليرة في تموز 2021 إنتزع من الموظفين أبسط حقوقهم بالعيش الكريم. فمع ‏كل انخفاض في قيمة الليرة، كانت رواتبهم تتآكل أكثر، حتى أصبحت تتراوح اليوم بين 51 و300 دولار‎.‎

تفيد رئيسة “رابطة موظفي الإدارة العامة” نوال نصر أن “المعدل الوسطي لرواتب موظفي القطاع العام هو 2 مليون ليرة، أو ما يعني ‏‏109 دولارات بأسعار صرف اليوم. ذلك أنه باستثناء فئة المدراء العامين الذين يشكلون نسبة قليلة من أعداد الموظفين، فان شريحة ‏واسعة من الأجراء والفئات الدنيا تتقاضى 1.5 مليون ليرة”. هذا الواقع الذي يجتزئ 950 دولاراً من كل 1000 دولار يتقاضاها ‏الموظف، تصفه نصر بـ”جريمة سرقة”. وهو يتطلب قبل إعادة الحقوق إلى أصحابها والتعويض على المتضررين، معاقبة ومحاسبة ‏المسببين‎.‎

تصحيح الرواتب والأجور

لا حاجة للغوص في ما يمكن أن تشتريه 109 دولارات للموظف، لأن الجواب ببساطة: لا شيء. فالمبلغ أقل من الحاجة الشهرية إلى ‏الغذاء بنحو مليون ليرة، ويشكل نحو 50 في المئة من كلفة النقل، ويعادل في أحسن الأحوال فاتورة اشتراك المولد الخاص لشهر تموز. ‏ما تعيده نصر إلى سرقة قيمة العملة الوطنية، وتحمّل الدولة مسؤولية استرجاعها، يتطلب من وجهة نظرها أمرين أساسيين لاستمرار ‏المرفق العام، الذي لم يتلكأ الموظفون في تشغيله في عز أيام الحرب، وهما: معالجة فورية للوضع المعيشي للموظف. وتأمين الحاجات ‏الأساسية لتسيير الإدارات. حيث أن وسائل العمل وأدواته مفقودة بشكل كلي. إنطلاقاً من هنا “وضعنا كل طاقاتنا بتصرف الدولة ‏لوضع خطة تقوم على المواءمة بين حاجة الإدارة العامة للموظفين وبين قدرة الموظفين على الحضور” تقول نصر. وطالبنا بـزيادة ‏بدل النقل ليواكب ارتفاع كلفته الحقيقية، أو تأمين خطة نقل لموظفي القطاع العام، و تأمين بونات بنزين بما يتناسب والمسافات التي ‏يقطعها الموظف. حل مشكلة تدني قيمة التقديمات الصحية والإجتماعية في تعاونية موظفي الدولة والصندوق الوطني للضمان ‏الاجتماعي. تصحيح الرواتب والأجور، بما يتناسب مع مؤشر الغلاء أو على الأقل وفق سعر المنصة الرسمية في كل حين. واحتساب ‏تعويضات الصرف التي ترتبت أو أودعت في المصارف بالليرة اللبنانية، على سعر المنصة الرسمية بتاريخ تسديدها لمودعيها‎.‎

‎”‎تسونامي” التضخم

مطالب الموظفين المحقة بزيادة الرواتب، تصطدم برأي الخبراء بـ”تسونامي” تضخمية تجرف مفاعيلها بفترة قياسية. والدليل الأبرز ما ‏جرى لسلسلة الرتب والرواتب التي أقرت قبل 3 سنوات. فـ”من حقنا الإنساني جميعاً، موظفين ومحدودي دخل، المطالبة بزيادة الأجور ‏والرواتب”، تقول الباحثة الإقتصادية د.ليال منصور. ولكن بيت القصيد ليس هنا، إنما هو في مفعول هذه الزيادة على القدرة الشرائية ‏أولاً، والإقتصاد ثانياً. فمن الناحية العلمية الصرف، أي زيادة للرواتب ترتكز على مؤشر تراجع قيمة سعر صرف العملة الوطنية ‏وتدني المبالغ التي ستدفعها الدولة كزيادات، هي خاطئة. لانها لا تأخذ في الحسبان بقية المؤشرات الإقتصادية. فالزيادة من هذه الزاوية ‏قد تسكّن “وجع” الموظفين، إلا أنها ستساهم بقتل الإقتصاد بعد فترة وجيزة. فالدولة عاجزة. والإيرادات متراجعة بنسبة 8 في المئة. ‏وحجم الدين إلى الناتج المحلي على ارتفاع. والانتاجية شبه معدومة. واحتياطي العملات الاجنبية سلبي والقطاعات العامة تتوقف ‏الواحد تلو الآخر. والثقة غائبة… من هنا فان الطريقة الوحيدة لتسديد الزيادات ستكون من خلال طبع المزيد من الأموال وتوسّع الكتلة ‏النقدية بمعناها الضيق‎ M1 ‎إلى مستويات خيالية. وبحسب منصور فانه بـ”مجرد تبني تصحيح الأجور، فهذا يعني إقتصادياً تبني ‏التضخم والإستسلام لمشيئة ارتفاع الأسعار. وبهذا يصبح التضخم عاملاً داخلياً بنيوياً وليس عنصراً مرحلياً وعابراً”، ما يشبه تماماً ‏معالجة زيادة الوزن بشراء ثياب بقياسات أكبر، بدلاً من اتباع حمية غذائية. وللدليل على مخاطر تصحيح الأجور لمواجهة التضخم ‏تستشهد منصور بـ”رفض الدول الأوروبية معالجة التضخم الكبير بنقطتين خلال فترة قياسية من خلال تصحيح الأجور. ذلك ‏لاعتبارها أن أزمة كورونا المسببة للتضخم عابرة؛ ولرغبتها بعدم تبني التضخم في الإقتصاد. في المقابل فان المكابرة على تصحيح ‏الأجور في لبنان أو غيره من البلدان تدل على وجود النية باللجوء إلى سياسات أخرى لتحسين الوضع المعيشي‎.‎

ما هي حلول تحسين الوضع المعيشي؟

‎”‎توقيف مطبعة النقود”، تقول منصور. والإنتقال إلى تبني نظام سعر صرف جديد يقوم على “مجلس تثبيت القطع‎” CURRENCY ‎BOARD. ‎أو دولرة الإقتصاد بشكل كلي. طرح “مجلس تثبيت القطع” الذي لم تكن لتتبناه منصور قبل عدة سنوات تقول إنه “أصبح ‏الخيار الوحيد أمامنا اليوم في ظل تجمع العوامل النقدية والإقتصادية السلبية‎”.‎

مجلس تثبيت القطع

باختصار يجبر “مجلس تثبيت القطع” الدولة على البحث عن مصادر لتأمين عجزها من خارج طباعة النقود التي يتولاها مصرف ‏لبنان. واستناداً إلى أرقام الدولية للمعلومات عن موازنة 2020 فان الإيرادات بلغت 15342 مليار ليرة مقابل نفقات بـ 19,425. أي ‏ان العجز بلغ 4,085 مليار ليرة. هذا طبعاً من دون احتساب الديون الأجنبية التي توقفت الدولة عن سدادها. والا لكان العجز ارتفع إلى ‏حدود 10 آلاف مليار ليرة على سعر الصرف الرسمي. لكن في حال تبني “المجلس” يصبح جزء كبير من موظفي الدولة عرضة ‏للصرف لعدم القدرة على تأمين رواتبهم. وتزداد الخشية، من ارتفاع أعداد العاطلين عن العمل وتعميق الأزمة الإقتصادية أكثر فنكون ‏‏”بدلاً من أن نكحلها نعميها”. إلا انه بحسب منصور فإن “واحداً من أسباب المشكلة هو ضخامة أعداد موظفي الدولة وتراجع انتاجيتهم. ‏وما النقمة على “الكورنسي بورد”، وتحديداً من قبل السياسيين، إلا لأنه يحد من قدرتهم على التوظيف في الدولة لأغراض انتخابية ‏وحشوها بأزلامهم”. من جهة أخرى تعتبر منصور، التي لم تعطِ رأيها الشخصي ما إذا كانت مع أو ضد الخصخصة، أن “الاخيرة ‏أصبحت أمراً واقعاً لا مهرب منه لاصلاح القطاع العام وامتصاص فائض الموظفين الضروريين وصرف البقية الذين لا عمل لهم”. ‏ولو كان القيمون على الدولة برأيها “حريصين على مصلحة المؤسسات العامة لما كانوا عاثوا بها فوضى وخراباً وفساداً واوصلوها إلى ‏حالة الإنهيار التي هي فيها اليوم‎”.‎

تمويل الزيادة من الموازنة ممكن… ولكن‎!‎

من جهتها تعتبر رئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة نوال نصر أنه لن يكون لزيادة الرواتب أي آثار تضخمية. لأن بامكان الدولة ‏تأمينها من‎:‎

‎ ‎

‎- ‎مواردها الكثيرة المهملة أو المهدورة والموهوبة دون مبرر والمنهوبة أوغير المرشّدة. ومنها على سبيل الذكر لا الحصر الأملاك ‏العامة الموهوبة لأفراد ومؤسسات بشكل مجاني أو بايجارات رمزية‎.‎

‎- ‎الهدر الحاصل في إيجارات المباني الحكومية التي تستنزف المليارات سنوياً، والتي يمكن تشييد او شراء بدائل عنها وبأقل كلفة ‏بكثير، كمبنى الاسكوا الذي تجاوز بدل ايجاره 15 مليار ليرة سنوياً، ومبان أخرى في وسط المدينة بإيجارات تفوق كلفة شرائها، ‏وغيرها الكثير من المقرات‎.‎

‎- ‎إعادة تنظيم وتوزيع الرواتب التي لا تصدق ارقامها في بعض المرافق العامة وتبلغ عشرات الملايين. بينما يرنو موظفو الإدارة ‏العامة الى زيادة طفيفة على رواتبهم‎.‎

‎- ‎تفعيل جباية إيرادات المرافق العامة لا سيما المنتجة منها كالخليوي، معاينات الميكانيك وعائدات مواقف السيارات العائدة بالمبدأ ‏للدولة. وتفعيل جباية فواتير الماء والكهرباء‎…‎

‎- ‎كف يد الشركات الرديفة للإدارات التي تستنزف مالية الدولة، من دون القيام بما هو مطلوب‎.‎

‎- ‎الغاء بنود الإعفاءات والتسويات الضريبية للشركات، خاصة الكبرى منها والتي تقدر بالمليارات‎.‎

‎- ‎إلغاء المساهمات المالية لقطاعات لا تستحقها كالمدارس المجانية التي بمعظمها وهمية والمدارس الخاصة المتعثرة التي لا تنفك عن ‏رفع أقساطها سنوياً مع او بدون انخفاض قيمة العملة، وتقلص أعداد موظفيها ومعلميها، وللجمعيات الوهمية المسماة اجتماعية وخيرية ‏التابعة لكبار المحظيين والمحظيات‎.‎

‎- ‎الغاء او دمج الصناديق التي انجزت او كادت تنجز مهامها‎.‎

‎- ‎إعادة النظر بأحقية وعدالة توزيع الرواتب في القطاع العام‎.‎

‎- ‎تطبيق القوانين ذات الصلة بسقف التعويضات والالتزام بهذا السقف‎.‎

‎- ‎إطلاق يد الرقابة والقضاء ورفدهما بالكادر البشري الكافي، للبحث عن الأموال الضائعة‎.‎

باختصار فان المطلوب من وجهة نظر نصر “إصلاح إداري ومالي شامل سواء داخل الإدارة العامة أو خارجها، هو وحده كفيل بتمويل ‏أي زيادة على الرواتب‎”.‎

بغض النظر عن القدرة المفقودة على الإصلاح الإداري طوعاً، ومساهمة هذه الإجراءات على أرض الواقع في تمويل كلفة زيادة ‏الرواتب غير المحتسبة بعد، تعتبر منصور أنه “بغض النظر عن مصدر أو كيفية تأمين الأموال لزيادة رواتب موظفي الدولة البالغ ‏عددهم 320 ألفاً فان هذا يعني “عدم وجود نية للإصلاح”. ولا يمكن من وجهة نظرها أخذ متغيري الموظفين وزيادة الرواتب فقط في ‏الحسبان لتحسين الوضع المعيشي، إنما يجب أخذ بقية المتغيرات الاقتصادية بالاعتبار أيضاً. وإلا فان النتيجة ستكون وقوع الاقتصاد ‏ضحية السياسات الشعبوية مرة جديدة‎.‎