السبت 18 شوال 1445 ﻫ - 27 أبريل 2024 |

برامج

شاهد آخر حلقاتنا اونلاين

بالفيديو: تشتعل داخل الماء.. تعرف إلى أكثر أنواع النيران "سريّة" في التاريخ

في القرن السابع الميلادي ابتكر البيزنطيون سلاحًا لا مثيل له آنذاك وكان عبارة عن نار حارقة استخدمت بشكل كبير في المعارك الحربية البحرية، كانت النار تأكل سفن أعدائهم بالجنود، ولا توقفها المياه، بل تستمر في الاشتعال داخل الماء، ولم يكن أحد يعرف ما هو سر هذه النيران التي لا تتأثر بالماء، والتي كانت سببًا رئيسًا في العديد من الانتصارات العسكرية البيزنطية، وعرفت بـ (النار اليونانية).

فعليّاً، وكما يذكر المؤرخ البيزنطي ثيوفانس Theophanes فقد كانَ ملائِماً أكثر أنْ يُطلقَ اسم “نار كالينيكوس” عليها نسبةً إلى كالينيكوس من بعلبك _إحدى المدن اللبنانية اليوم_(هليوبوليس)، وهو مهندسٌ مسيحيٌّ لجأ إلى القسطنطينيّة، وكان مسؤولاً عن تصنيعِ النارِ السّائلةِ وبناءِ نظام نفثها عبر السِيفُون من السّفنِ الحربيّة، والتي دمّرت الأسطولَ العربيّ وحَمَت الإمبراطوريّة.

قد يكونُ كالينيكوس وقعَ على خلطتِهِ بعدَ تجاربَ عديدةٍ قبلَ وبعدَ هربِهِ إلى القسطنطينيّة، إذ كانت كيمياءُ النّارِ في بلادِ الرّومانِ شائعةً منذُ القرنِ الرّابعِ الميلاديّ. وعلى سبيلِ المثال، كانت هذه الوصفةُ الرومانيّةُ للموادِّ الحَارقةِ والفعّالةِ معروفةً؛ إذ وصفها الكاتبُ الرومانيُّ فيجتيوس ريناتوس في حوالي عام ٣٥٠: “نفط، وكبريت، وصمغ، وقطران”. وفيما بعد، أدّت التحسيناتُ اللّاحقةُ إلى تصغيرِ تكنولوجيا هذا السّلاح، ممّا مكّنَ حملهُ من قِبَلِ الجنودِ في ساحةِ المعركة. وقد استخدمَ البيزنطيّونَ النّارَ السّائلةَ ليس فقط ضدّ العربِ، بلْ ضدَّ الرّوسِ والإيطاليّينَ وكلّ من حاولَ الاعتداءَ عليهم، حتّى قِيلَ إنَّ نارَ كالينيكوس قد تكونُ حمت الإمبراطوريّة البيزنطيّة لقرونٍ متوالية.

ظلت النار اليونانية سرًا للدولة يخضع لحراسة مشددة، واستخدم البيزنطيون أيضًا فتحات أو أنابيب مضغوطة لقذف اللهيب على العدو بطريقة تشبه قاذف اللهب الحديث، ومن غير المعروف حتى الآن مكونات النار اليونانية، ولم تتمكن الجيوش التي استولت على السائل مع الماكينة من استنساخ أيٍّ منهما.

 

 

أرقت النار اليونانية المؤرخين والعلماء لعدة قرون وربما كانت مصدر إلهام لاختراع النابالم وأسلحة اللهب الحديثة، ورغم أن هناك نسخًا للنار اليونانية صنعت من قبل شعوب أخرى على مر القرون، لكن لم يكن أي منها يجمع كل هذه الصفات معًا، ورجح بعض العلماء والمؤرخين وجود بعض المواد الكيميائية المحتملة والتي استخدمت في النار اليونانية مثل: البترول، والجير الحي، والكبريت، والنترات.

تاريخياً
وبالعودة لكتب المؤرخين يشير الباحث “مازن الغول” هو أستاذُ الكيمياءِ الفيزيائيّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت، إلى أن الأسلحةُ الحارقةُ استعملت في الحربِ الأهليّةِ الإغريقيّةِ بين البيلوبونيزيّين تحتَ قيادةِ إسبارطة والديليّين تحتَ قيادةِ أثينا، بين عامي ٤٣١ ق.م و٤٠٤ ق.م. يُشيرُ مؤرّخُ الحربِ البيلوبونيزيّة الكبير ثوسيديديس (٤٦٠ ق.م.-٤٠٠ ق.م.) إلى أنّهُ في السّنةِ الثّالثةِ من الحربِ، كان البيلوبونيزون يضغطونَ بشدّةٍ للإستيلاءِ على مدينةِ بلاتيا في شتّى الأساليب، وعندما باءَت كلّ محاولاتِهم بالفشلِ، قاموا بحشوِ تجويفةٍ في سورِ المدينةِ بحزمةٍ من الأخشابِ المنقوعةِ سلفاً بالزفتِ والكبريت، وقاموا بإشعالِها، فتسبّبت بنارٍ هائلةٍ لا مثيلَ لها، وصفها ثوسيديديس ”كالغابةِ المحترقةِ“، كادت أنْ تأتي على المدينةِ بأكملِها لولا إخمادها من قِبَلِ عاصفةٍ ماطرةٍ. وبعد أربعِ سنواتٍ أقدمَ خصومُ الأثينيّين أيضاً على استخدامِ الكبريتِ الممزوجِ بالزفتِ، ولكن هذه المرّة استخدموا شيئاً مثل قاذفِ اللّهبِ ضدَّ جدرانِ سورِ مدينةِ ديليم، وقد تمَّ استخدامُ الموادّ الحارقة من قِبَلِ الصّقليّين، حلفاء إسبارطة، ضدَّ الأثينيّين خلالَ السّنةِ التاسعة عشرة من هذه الحرب.

أمّا الرومان، فقد كانَ لهم أساليبهم المُعتمدَة في هذا المجال. فكتبَ القائدُ الرومانيّ آينيس كتاب ”فن الحصار“ بين عامي ٣٥٠ و٣٥٦ قبلَ الميلاد، واعتمدهُ الرومانُ في حروبِهم، إذْ كان يحتوي على إرشاداتٍ عن حراسةِ المدنِ وأسوارِها، والإشاراتِ وطُرقِ إرسالِ الرموزِ السرّيّةِ، وأنواعِ الأحبارِ، إلخ. واحتوى الكتابُ فصلاً عن كيفيّةِ تحضيرِ “نارٍ عظيمةٍ” يصعبُ إخمادها عبرَ هذهِ الوصفة: “اِخلطْ زفت، وكبريت، وكتّان، وصمغ أو لبان البخّور، ونشارة خشبِ الصّنوبر، ثمّ اِشعلهم واستعملهم على الأهدافِ المعاديةِ التي تودُّ حرقَها”.

وعلى الرّغمِ من امتلاكِ الرّومانِ المعرفة في مجالِ الأسلحةِ الحارقةِ إلّا أنّهُ في العام ٧٩ ق.م. تكبّدوا أوّلَ خسارةٍ مدوّنةٍ في التّاريخِ نتيجةَ السّوائلِ الحارقةِ، وكان هذا عندما هاجمَ جيشُ لوسيوس لوكولّوس (١١٨ ق.م.-٥٧/٥٦ ق.م.) مدينة سمسات الهلنستيّة على ضفّةِ نهرِ الفراتِ في ما يُعرفُ الآن بجنوبِ شرقِ تركيا.

حيث سكبَ سكّانُ المدينةِ طيناً ملتهِباً على الجنودِ الغُزاةِ فأحرقتْهم النّيرانُ في دروعِهم وبالتالي فَشِلَ الهجوم. وكتبَ القائدُ العسكريّ والفيلسوفُ الرومانيّ بليني الكبير (٧٩ ق.م- ٢٣ ق.م.)، عن هذهِ المادّةِ بأنّها “تلتصقُ بكلِّ جسمٍ يلمسها، وعندَ لمسِها، فإنّها تُتبعكَ إذا حاولتَ الهربَ منها. كما أنّها تشتعلُ في الماءِ، ونعلمُ من خلالِ التّجربةِ أنّهُ لا يمكنُ إخمادُها إلّا بالتراب”.

التركيبة السرية

في اللغة اليونانية تسمى النار الاغريقية ب ـ”ايغرو بير” “υγρό πυρ” أي النار السائلة. ولا تعرف مكونات هذه المادة بدقة، ولكن يرجح أنها كانت مزيجا مركبا من عدة مواد سريعة الاشتعال كالكحول – النفط – وملح الصخور – والكبريت – والقار. وكانت لهذه المادة خاصية الاحتراق حتى على سطح الماء، لذلك سميت أيضا بالنار السائلة أو البحرية.

ويوصف استعمالها بالطريقة التالية، حيث كان المزيج المحرق يعبأ في قدور كبيرة، على متن سفن حربية سريعة تسمى بالـ”درومون” (باليونانية δρόμων، وتعني العداء)، وعند الاستعمال يسخن ويضخ في سيفون من النحاس ينتهي بمحقن مركب في مقدمة المركب (يعرف بالـ”سيفوناريوس” siphònariòs)، ينفث المادة السائلة على سفن الأعداء، والتي تلتهب بصفة تلقائية.

وقد اكتشفت مادة مشابهة واستخدمت من قبل البحرية الصينية بهذه التقنية أو معبأة في قنابل يدوية وقذائف منجنيق سنة 975 ميلادية. بذل العلماء جهوداً كبيرة لاكتشاف أسرار هذا السلاح الفتاك الذي كان أعجوبة الزمان الغابر حيث بادر حديثاً طاقم انكليزي يترأسه البروفيسور جون هولدن “المؤرخ المتخصص في الحروب البيزنطية”، إلى مشروع يهدف إلى اكتشاف غوامض هذا السلاح لإعادة تصنيعه وتجريبه، وكان هذا العالم أول من يخرج بتصميم لقاذف اللهب أو “النار الإغريقية”، شارحاً المواد التي صنعت منها هذه النار وآلية استخدامها.