الطبيبة سرين العطار كانت تتواصل عبر واتساب ليل نهار مع زملائها والنساء الحوامل في قطاع غزة لجعل الولادة أكثر أمانا، كما قال زملاؤها.
عملها كان جزءا من حملة بدأت قبل فترة طويلة من حرب غزة.
كانت الطبيبة نائمة في سرير يوم 11 أكتوبر تشرين الأول مع اثنتين من بناتها الثلاث. وكانت حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) قد هاجمت إسرائيل قبل ذلك بأربعة أيام. وتحسبا للرد الانتقامي من إسرائيل، غادرت سرين وطفلاتها الثلاث مدينة غزة للإقامة مع والديها في مخيم البريج للاجئين، أملا في أن يكن بمأمن.
تجمع 21 من الأقارب تحت سقف واحد. كان لدى ريما، ابنة سرين الكبرى، حشية على الأرض. وقالت الطفلة البالغة من العمر الآن 14 عاما لرويترز قبل النوم “آخر شيء قلته لها هو أحبك يا أمي”.
خلدوا إلى النوم وسط القصف الذي استهدف المنزل بعد ذلك. استيقظت ريما لتجد نفسها محاصرة تحت خزانة والغبار يخنقها.
تستعيد تلك اللحظات قائلة “بدأت بالصراخ: ألحقوني، ألحقوني، أمي، أي حدا ينجدني، يا عالم!”.
لكن صرخاتها لم تجد مجيبا ممن كانوا بجوارها نائمين إذ سقطت سرين قتيلة في الضربة الجوية الإسرائيلية، بحسب وزارة الصحة في غزة. وأصيبت شقيقة ريما البالغة من العمر ست سنوات بجروح خطيرة.
كانت سرين (39 عاما) واحدة من بين ما لا يقل عن 490 من العاملين في مجال الرعاية الصحية في غزة الذين قتلوا منذ أن توعدت إسرائيل بتدمير حماس ردا على هجوم الحركة عبر الحدود في السابع من أكتوبر تشرين الأول، بحسب وزارة الصحة في القطاع. وكانت طبيبة أخصائية ومن بين الطلائع الهادفة لتحسين الصحة العامة لسكان غزة في وقت كان يزداد فيه عدد السكان بسرعة قبل الحرب، وبمقتل تلك الكوادر الطبية تلقت الخدمة الصحية ضربة كبيرة.
واجهت الخدمة الصحية في غزة تحديات تحت الحصار الإسرائيلي بعد سيطرة حماس على السلطة في عام 2007، في ظل تنافس الفصائل الفلسطينية حول إدارة غزة وموجات من الصراع مع إسرائيل.
لكن في بعض المجالات، أحرزت الخدمة الصحية تقدما بفضل الاستثمار والدعم من الخارج ومثابرة أطباء مثل سرين، وفقا لمراجعة أجرتها رويترز لبيانات من وزارة الصحة الفلسطينية ووكالات الإغاثة العالمية ومقابلات مع أكثر من 20 طبيبا فلسطينيا وأجنبيا.
أحد الأمثلة: تظهر البيانات الصادرة عن وزارة الصحة في غزة أن معدل وفيات الأمهات في القطاع انخفض إلى 17.4 حالة وفاة لكل 100 ألف ولادة في عام 2022 من 23.4 في عام 2010، وهو أول عام تتوفر عنه بيانات خاصة بغزة.
وفي هذا السياق، تظهر بيانات منظمة الصحة العالمية أنه في عام 2020، وهو آخر عام متاح عنه أرقام، توفيت 41 امرأة من أصل 100 ألف في الأردن في أثناء الولادة أو بعدها بفترة قصيرة. وفي مصر كان هذا العدد 17 وفي إسرائيل ثلاثة.
ولا توجد آلية مستقلة للتحقق من بيانات الحكومة التي تديرها حماس، والتي تعترف بها الأمم المتحدة وتستخدمها وكالات الصحة الدولية بالطريقة ذاتها التي تستخدم بها البيانات الحكومية من الدول الأخرى. وللتحقق من عدد الأطباء الأخصائيين الذين قُتلوا وتقييم أثر وفاتهم، تحدثت رويترز إلى 10 أطباء في القطاع أو خارجه، و14 طبيبا أجنبيا ساعدوا في تدريب الأخصائيين، و10 من أقاربهم وأصدقائهم.
تظهر بيانات وزارة الصحة أنه بين عامي 2006 عندما فازت حماس بالسلطة في غزة و2022، قفز عدد سكان القطاع 49 بالمئة ليصل إلى 2.2 مليون نسمة. وفي تلك الفترة، قفز عدد الممارسين العامين ليصل إلى 1913، وكذلك عدد الأخصائيين إلى 1565.
ساعد في ذلك تدفق الدعم الأجنبي بما في ذلك من أطباء في إسرائيل. ويظهر إحصاء أجرته رويترز للسجلات العامة والاستفسارات المقدمة لمسؤولي الأمم المتحدة أن وزارة الصحة في غزة ووكالات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة خصصت ملياري دولار على الأقل للرعاية الصحية في القطاع خلال تلك الفترة.
وقال باسم نعيم أول وزير للصحة في غزة لرويترز إن الأطباء المتخصصين مثل سرين العطار كانوا جزءا من جهد استراتيجي لحماس لتأسيس نظام صحي مكتف ذاتيا في غزة يشمل مجالات عدة من علاج الحروق إلى تشخيص السرطان وعلاج الكلى.
وقُتل 55 أخصائيا في غزة في الحرب الحالية، وفقا لمعلومات وزارة الصحة وأقاربهم وزملائهم وأصدقائهم. ولم تتمكن رويترز من التحقق بشكل مستقل من ملابسات وفاتهم.
وهذا ينطبق على ما يقرب من أربعة بالمئة من الأخصائيين في غزة. والخسائر فادحة في بعض التخصصات التي بها كوادر صغيرة من الأطباء. وعلمت رويترز أن الجيب الفلسطيني كان به ثلاثة أخصائيين فقط في الكلى قبل الحرب، قُتل أحدهم ونزح آخر إلى الخارج.
ولطالما اتهمت حماس وحلفاؤها إسرائيل بالسعي إلى تدمير نظام غزة الصحي، وهو ما ينفيه الجيش الإسرائيلي.
وجدت رويترز أن سبعة من بين 55 أخصائيا قُتلوا في المستشفيات. وقُتل ما يصل إلى 23 عندما لم يكونوا في العمل. ولم تتمكن رويترز من العثور على معلومات واضحة عن مكان وفاة الباقين.
وقال الأطباء والخبراء إنه مع مقتل كل أخصائي، فقدت غزة شبكة من المعرفة والاتصالات. وهي ضربات أشد وطأة من تلك التي تتحملها معظم مستشفيات المنطقة البالغ عددها 35 منذ السابع من أكتوبر تشرين الأول. فمقتل طبيب واحد يمكن أن يشل خدمات متوفرة لكن تعاني من قلة عدد الأخصائيين.
وسجلت رويترز كفاح سرين العطار وطبيبين أخصائيين آخرين في غزة للتدريب والعمل تحت الحصار الإسرائيلي على القطاع، ورصدت كيف ساعدوا في تحسين الرعاية الصحية هناك.
وقالت طبيبة التوليد البريطانية ديبورا هارينجتون التي ساعدت في تدريب سرين وآخرين “هذه خسارة فادحة. لا يمكن لنظام الرعاية الصحية أن يتحمل خسارة هؤلاء الخبراء. وأضافت أن إعادة بناء النظام “ستستغرق عقودا”.
ولم ترد حماس على طلب للتعليق.
ولم يعلق الجيش الإسرائيلي على مقتل الأطباء المذكورين في هذه القصة. لكنه قال في بيان لرويترز إن لديه أدلة “دامغة ولا يمكن دحضها” على أن حماس استخدمت المستشفيات والبنية التحتية الطبية غطاء “لأغراض إرهابية”.
وطوال فترة الحرب، ينشر الجيش الإسرائيلي ما يقول إنها أدلة على استخدام حماس للمرافق الطبية في أغراض عسكرية، منها أسلحة قال إنه عثر عليها في المستشفيات ومقطع فيديو لاستجواب مدير مستشفى محتجز ونفق بالقرب من مستشفى الشفاء يقول الجيش الإسرائيلي إنه كان مركز قيادة لمقاتلي حماس. وتنفي حماس هذه المزاعم.
وجاء في البيان بشكل عام أن “الجيش الإسرائيلي لا يسعى وراء الطواقم الطبية فيما يتعلق بأدوارهم كمحترفين طبيين، ولكن بسبب تورطهم المحتمل في إرهاب حماس”.
ولم تتمكن رويترز من التحقق بشكل مستقل من التصريحات المتبادلة من الجانبين بشأن تورط النظام الصحي في غزة في الصراع الحالي.
وتظهر الإحصاءات في غزة وإسرائيل أن ما يربو على 36 ألف فلسطيني ونحو 1500 إسرائيلي قتلوا منذ السابع من أكتوبر تشرين الأول. وتقول إسرائيل إن نحو 120 شخصا اختطفوا خلال هجوم حماس ما زالوا محتجزين رهائن في غزة.
* “جيل جديد من المحترفين”
تعود أصول نحو 80 بالمئة من سكان غزة إلى اللاجئين الذين طردوا أو فروا من منازلهم خلال حرب عام 1948 التي أعقبت قيام دولة إسرائيل. ومسيرة سرين العطار تعكس ما شهده نظام الرعاية الصحية في غزة وسط العزلة والحرب والصراع السياسي الداخلي الفلسطيني.
ولدت سرين عام 1984 وبدأت دراسة الطب عام 2002 عندما كانت غزة تعتمد في العلاج الطبي المتقدم على المستشفيات في إسرائيل والدول المجاورة الأخرى. في ذلك الوقت، كان لدى القطاع أقل من 30 سريرا في وحدات الرعاية الخاصة، وفقا لتقرير صدر عام 2012 عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية.
حماس، الحركة الإسلامية التي يدعو ميثاقها التأسيسي إلى تدمير إسرائيل، سيطرت على غزة في عام 2007 بعد قتال دام أعقب انتخابات 2006 ضد حركة فتح التي تدير السلطة الفلسطينية في رام الله بالضفة الغربية. وأدى هذا إلى تشكيل حكومتين في رام الله وغزة، ولكل منهما وزارة للصحة.
انفصلت الخدمات الصحية في غزة عن وزارة رام الله التي بدأت في تقليص الأموال المخصصة للقطاع. وأغلقت إسرائيل حدود غزة فيما فرضت مصر قيودا أمنية على الحدود، وقيدت إسرائيل تحركات السكان وحرمتهم من الوصول إلى الإمدادات الطبية، وبدأت في الرد على هجمات شنتها حماس بحملات عسكرية.
وذكر تقرير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية أن السلطة الفلسطينية لديها عيادات صحية مخصصة لموظفيها أو أفراد الأمن، ومعظمهم من أعضاء فتح. وقال التقرير إن حماس سعت إلى تحديث الكوادر الطبية في غزة لتعيين الموالين لها والإبقاء عليهم.
وأكد الدكتور باسم نعيم أول وزير للصحة في عهد حماس أنه استبدل القادة الطبيين، لكنه قال إنه قبل وصول حماس إلى السلطة “تم حرمان الكثير من الأطباء والممرضين الجيدين من العمل في وزارة الصحة… لأنهم ينتمون إلى جماعات سياسية أخرى غير فتح”.
وأضاف أن هدف حماس هو إضفاء الطابع المهني على الخدمة. وبدأت تسعى لتدريب متخصصين لتأسيس ما أسماه “جيلا جديدا من المحترفين” لنظام صحي يدعم دولة فلسطينية.
وتولى نعيم منصبه حتى عام 2012 ويعمل الآن متحدثا باسم حماس من الدوحة في قطر.
في المقابل، نفى عبد الفتاح دولة المتحدث باسم فتح المزاعم بأن أعضاء الحركة يتلقون معاملة تفضيلية. وقال إن فتح جعلت الرعاية الصحية متاحة لجميع الفلسطينيين. ولم تستجب وزارة الصحة في رام الله لطلبات التعليق.
وذكر نعيم أن وزارة غزة دفعت في عامها الأول 110 ملايين دولار لمستشفيات في إسرائيل ومصر والأردن لعلاج الفلسطينيين. لكن حماس أرادت الاستثمار في أطباء القطاع بدلا من ذلك.
في عام 2008، تخرجت طالبة الطب سرين العطار من جامعة القدس فرع غزة بتقدير عال. وتأهلت بذلك للمنحة الدراسية الوحيدة في المنطقة للتدريب التخصصي في أمراض النساء والتوليد في عمان بالأردن. وكانت واحدة من حوالي 140 طبيبا قال نعيم إن وزارة غزة أرسلتهم للتدريب هناك.
وقال نعيم وهو جراح “ناضلنا بكل قوتنا وبكل إمكانياتنا من أجل إرسال بعض الأطباء الشبان حديثي التخرج خارج البلاد للحصول على تدريب احترافي للغاية”.
وكانت سرين حبلى بطفلتها ريما بينما كانت تستعد لتلقي المنحة الدراسية وخاضت تجربة مباشرة مع الحصار الإسرائيلي. وقال زوجها الطبيب وجدي جربوع لرويترز إنها اضطرت إلى أن تضع مولودتها في الأردن أو كانت ستؤجل دراستها انتظارا للحصول على تصاريح للسفر مع الطفلة.
وواجهت سرين صعوبة في الخروج. وقال جربوع إنها وصلت في أبريل نيسان 2010 إلى مستشفى في الأردن قبل أقل من 24 ساعة من ولادة ريما.
وغادرت تاركة نظاما يعمل تحت عقلية الحصار.
ومع عزلها من قبل إسرائيل وفتح، عملت حماس على توسيع الشبكات الاجتماعية غير الرسمية لإحكام سيطرتها على غزة وإدخال البضائع المهربة من مصر عبر الأنفاق وتعزيز الجمعيات الخيرية وفرض الضرائب على السكان وطلب المساعدة من الخارج.
* “دعم غير متوقع”
بحلول عام 2022، كان لدى غزة 3412 سريرا بالمستشفيات أي زيادة 70 بالمئة تقريبا مقارنة مع عام 2009، وهو أول عام تتوفر عنه بيانات وزارة الصحة. ويصل ذلك إلى ما يقرب من 15.5 سرير لكل 10 آلاف شخص – أكثر مما هو عليه في مصر والأردن وسوريا. لكن هذا الرقم يشكل تقريبا نصف إجمالي العدد في إسرائيل، بحسب أحدث بيانات من منظمة الصحة العالمية.
تلقت غزة المساعدة من حكومات ومنظمات خيرية في الخارج مثل الاتحاد الأوروبي وإندونيسيا والكويت وتركيا والإمارات والأمم المتحدة.
ولا تتوفر بيانات واضحة عن المبلغ الذي أرسلته جميع الجهات. وتذكر السجلات التي تمكنت رويترز من مراجعتها ما يصل إلى 2.2 مليار دولار على الأقل منذ عام 2006 تشمل حوالي 740 مليون دولار من منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) وصندوق الأمم المتحدة للسكان.
الجهة الرئيسية التي تقدم المساعدات في غزة هي وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). ولا توضح تقاريرها المبلغ الذي تم إنفاقه على الصحة من أصل أربعة مليارات دولار خصصتها لغزة، لكنها تظهر أن هذا المبلغ بلغ 75 مليون دولار على الأقل. ولم ترد الأونروا على الأسئلة المتعلقة بإنفاقها على المجال الطبي.
ولم تتمكن رويترز من الوصول إلى جميع سجلات الإنفاق الخاصة بوزارة الصحة في غزة. ووفقا لتقاريرها العامة، بلغ إجمالي إنفاقها 1.4 مليار دولار بين عامي 2015 و2022.
وقالت عالمة الاجتماع بجامعة كامبريدج منى جبريل التي نشرت دراسة من 138 صفحة عن النظام الصحي في غزة في عام 2021 إن “إحدى النتائج المتناقضة للحصار هي أن القطاع الصحي شهد بالفعل توسعا”. وأرجعت النمو إلى مجموعة من العوامل موضحة أن نظاما جيدا للرعاية الصحية أمر ضروري لبقاء حماس.
كما ساعد أطباء في إسرائيل إذ بدأت منظمة أطباء لحقوق الإنسان في إسرائيل، ومقرها يافا، العمل مع وزارة الصحة في غزة عام 2009، حسبما قال مديرها العام جاي شاليف.
منذ عام 2010 وحتى اندلاع أحدث حرب في غزة، أرسلت المنظمة أطباء أخصائيين إسرائيليين من أصل فلسطيني إلى القطاع في مهمات منتظمة لتدريب الأطباء على الإجراءات الطبية المتقدمة.
وقال شاليف لرويترز إن الأطباء الإسرائيليين تلقوا “دعما وترحيبا غير متوقعين من الوزارة” التي تديرها حماس. وأضاف “كان انطباعنا أنهم كانوا متحفزين للغاية من ناحية إنجاح الأمر حتى في هذه الظروف المستحيلة تماما وتشغيل نظام الصحة العامة بشكل صحيح لتلبية احتياجات السكان”.
وكان جهة الاتصال الرئيسية مع المنظمة الإسرائيلية في وزارة الصحة في غزة هو مديرها العام الطبيب منير البرش. وقالت الوزارة إن البرش أصيب في ضربة جوية إسرائيلية في 21 ديسمبر كانون الأول على منزله في جباليا شمال غزة، وهي ضربة أدت إلى مقتل ابنته.
وقالت زوجة البرش إنه لا يزال يتعافى ولذلك لم يتح الحصول على تعليق منه.
*”اللعنة على البروتوكول”
في عام 2016، عادت سرين العطار وزوجها إلى غزة للعمل في وزارة الصحة. وتشير بيانات الوزارة إلى أن مستشفياتها تولت ثلثي العمليات الجراحية في غزة، وأجرت 66051 عملية جراحية – بزيادة 13 بالمئة تقريبا منذ عام 2010.
انضمت إلى مشروع وزارة الصحة لخفض معدل وفيات الأمهات ونقل المهارات التي تعلمتها في الأردن وتدريب الأطباء – كثير منهم من الذكور – على كيفية تشخيص الانسداد الرئوي وتجلط الأوردة العميقة والذي قد يسبب الوفاة.
قالت زميلتها وصديقتها الدكتورة سناء نجار “كانت الأصغر سنا والجديدة”.
واتسمت الحياة اليومية بانقطاع التيار الكهربائي وبطء الإنترنت وعدم الاستقرار السياسي ودورات الصراع مع إسرائيل. وكان النظام يفتقر إلى إمدادات مستقرة وكان بحاجة أحيانا إلى إحالة بعض المرضى إلى المستشفيات في إسرائيل وأماكن أخرى.
وقال زوجها الطبيب وجدي جربوع “انزعاجات تحدي العمل في كثير من الأيام في بدايتها في وزاره الصحة الفلسطينية لم يكن معنا ثمن شراء الوقود للذهاب للعمل لقد كان الأمر محرجا للغاية ولم نعلم أحدا من قبل فكانت وليست هي فقط بل كثير من أطباء غزة في فترة الحصار القاتل كانوا يتعرضون لأزمات من هذا الشكل”.
وتلقى هو نفسه تدريبا متخصصا في الأردن كأخصائي أشعة. لكن في عام 2020، مثل كثير من الأطباء في غزة، انتقل إلى الخارج من أجل راتب أفضل. وتحدث إلى رويترز من منزله في سلطنة عمان حيث سافرت إليه ريما وشقيقتاها بعد وفاة والدتهن.
في عام 2017، انضمت سرين إلى دراسة شملت أربعة من مستشفيات غزة، وشاركت في كتابة بحث نشر في مجلة ذا لانست الطبية عام 2021. ووجد البحث أن المستشفيات تسجل نتائج أفضل عندما يجري فيها تجفيف الأطفال حديثي الولادة جيدا ولمسهم بشكل مباشر مع تلقيهم الرضاعة الطبيعية المبكرة.
لكن أصابها الإحباط من بيروقراطية الوزارة إذ شعرت أنها كثيرا ما تترك النساء الحوامل في خطر. وقال زملاؤها إنها رأت أن إجراءات المستشفيات لم تكن مرنة بما يكفي للسماح بالتدخل السريع عند الحاجة، كما أن ضعف التواصل بين أقسام المستشفيات يعوق الرعاية.
وقالت صديقتها سناء نجار “كانت تشعر بالجمود في كل مكان”. وفي عام 2020، انتقلت إلى منصب أكثر موثوقية مقابل أجر في الأونروا. ولم تستجب وزارة الصحة في غزة لطلب التعليق على تلك النقاط.
وأضافت سناء مسؤولة صحة الأسرة في الأونروا أنه عبر المراكز الصحية التابعة للوكالة وعددها 22، كانت سرين واحدة من ثلاثة أخصائيين فقط في التوليد.
وأشارت سناء إلى أن سرين دعمتها في مركز كانت تديره في مدينة خان يونس في الجنوب، مستخدمة معرفتها وعلاقاتها للتدخل من أجل النساء المعرضات للخطر. كانت تعرض شخصيا الكشف على كل مريضة ومتابعة حالتها من خلال الرسائل والمكالمات.
وتابعت سناء “قالت: اللعنة على البروتوكول، اللعنة على الجدول الزمني، أحيلوا أي حالة إلي”. وإذا كان على سرين الكشف على 25 حالة، كانت تزيد هذا العدد إلى ما يصل إلى 50، وتبقى لوقت متأخر لرؤية المريضات.
وأردفت سناء قائلة إن سرين ساعدت أيضا في تقديم التوجيهات حول ما إذا كان ينبغي للأونروا إحالة لاجئات لإجراء عملية قيصرية – وهو إجراء أكثر ربحا للمستشفيات وبالتالي قد يكون هناك مبالغة في اللجوء إليه. ويقول مسؤولو الصحة إن منع مثل هذه العمليات الجراحية عندما تكون غير ضرورية يمكن أن يقلل المخاطر على الأمهات والأطفال.
وتلقت سرين نفسها مساعدة من الخارج. وقال الاستشارية البريطانية هارينجتون بمستشفى جامعة أكسفورد إن الطبيبة الراحلة كانت تعمل على تطوير تدريب متعدد التخصصات، وجلب القابلات والأطباء من جميع المستويات. وزارت هارينجتون وآخرون غزة سنويا منذ عام 2016 للمساعدة في التدريب الذي تموله منظمات خيرية منها جمعية العون الطبي للفلسطينيين (ماب)، وهي منظمة بريطانية غير ربحية.
وقالت “كانت سرين تجعل رعاية النساء أفضل. وأشركت آخرين في هذا”.
* ترقيع الجلد عبر سكايب
كان عدد سكان غزة يتزايد ليزيد معه الطلب على أخصائيي التوليد. لكن القطاع يحتاج أيضا إلى أطباء متخصصين في علاج الإصابات.
خلال حرب 2008-2009، واجه الأطباء جروحا سببتها ذخائر دخان استخدمتها إسرائيل تحتوي على الفسفور الأبيض – وهو مادة تشتعل فور ملامستها للأكسجين وتلتصق بالأسطح مثل الجلد والملابس وتسبب حروقا تخترق الجسم. وقالت إسرائيل إنها استخدمت المادة الكيميائية وفقا للوائح الدولية.
وقال الأطباء إن المرضى الذين تعرضوا لحروق غطت أكثر من 20 بالمئة من أجسادهم ماتوا بسبب نقص المرافق المتخصصة والخبرة. بينما في أوروبا والولايات المتحدة، يمكن مساعدة المرضى الذين يعانون من حروق بنسبة 90 بالمئة على البقاء على قيد الحياة.
ولذلك سعى المسعفون في غزة إلى تلقي تدريب في معالجة الحروق.
التحق الطبيب مدحت صيدم بكلية الطب في قازاخستان وعاد إلى غزة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. في معظم أيام الخميس عامي 2012 و2013، كان واحدا من مجموعة مكونة من ستة جراحين وأربعة ممرضين ينضمون إلى مكالمة عبر سكايب في الساعة السادسة صباحا بالتوقيت المحلي من غرفة في مستشفى الشفاء بمدينة غزة.
وعلى الخط من بريطانيا، حيث كانت الساعة الرابعة صباحا، كان جراح التجميل سوري المولد الطبيب علي غانم يشرح للطلاب في عمليات محاكاة كيفية ترقيع الجلد فضلا عن تدريبات أخرى.
كان هذا في إطار برنامج تعلم عن بعد حول علاج الحروق في جامعة كوين ماري في لندن. وبسبب الحصار، كان من المستحيل على الأطقم الطبية في غزة حضور هذه التدريبات هناك.
وقال غانم “كان أعضاء مجموعة غزة متلهفين للغاية، ومتعطشين جدا للتعلم. لقد طوروا مهاراتهم وتقدموا بسرعة كبيرة جدا”.
ركز صيدم على الحروق وإعادة بناء الأطراف والشفة المشقوقة والشق الحلقي.
ويتذكره الطبيب حسن الجيش، الذي عمل معه لمدة 15 عاما في مستشفى الشفاء، قائلا إنه كان يوجه زملاءه في المستشفى بشأن التعامل مع الحروق “مثل الأخ الأكبر أو والد أي شخص آخر في قسم الجراحة التجميلية”.
وقال الجيش إن غزة ليس بها سوى خمسة جراحين ممارسين في التجميل على القدر نفسه من الخبرة والتدريب.
وشهد الجيب الفلسطيني مزيدا من التدريب إذ قدمت منظمة أطباء بلا حدود المساعدة بإدارة عيادات في أنحاء غزة وبرنامج لعلاج الحروق في مستشفى الشفاء. وقال إيمانويل ماسارت رئيس عمليات غزة في الذراع البلجيكية للمنظمة الخيرية إن التعامل مع مثل هذه الحروق يتطلب مجموعة من التخصصات.
وأوضح ماسارت إنه بحلول أواخر عام 2023، كان مركز إعادة بناء الأطراف التابع لمنظمة أطباء بلا حدود في مستشفى العودة يعالج أكثر من 100 مريض، كل منهم على مدى عدة سنوات.
وتابع قائلا “تجد صعوبة حقا للعثور على متخصصين يمكنهم القيام بذلك”.
في 13 أكتوبر تشرين الأول، كان جراح التجميل صيدم، الأب لثلاث بنات وولد، موجودا في مستشفى الشفاء لكنه طلب من الطبيب حسن الجيش العمل مكانه إذ كان عليه المغادرة لمساعدة أخته على إخلاء منزلها.
في اليوم التالي، انتشل عمال الإنقاذ جثته من تحت أنقاض منزله في حي تل الهوى بمدينة غزة بعد قصف إسرائيلي في حوالي الساعة الواحدة صباحا، وفقا لما قاله زملاؤه.
وقال الجيش إنه رأى جثة صيدم تُنقل إلى مشرحة مستشفى الشفاء.
وأضاف أنه قبل أن يغادر صيدم المستشفى فإن “آخر ما أتذكره هو أنه كان يلعب مع ابني علي” الذي كان في الثانية من عمره.
وفي أبريل نيسان، قُتل أحمد المقادمة، وهو أحد جراحي التجميل الخمسة الرئيسيين، مع والدته في اقتحام الجيش الإسرائيلي لمستشفى الشفاء، حسبما قال أصدقاؤه وزملاؤه.
وبهذا بقي ثلاثة من الخمسة.
* إمدادات ثلاثية الأبعاد
في اليوم الذي هاجمت فيه حماس إسرائيل، اتصل أخصائي الكلى الطبيب همام اللوح بطارق لوباني الطبيب المقيم في كندا والمدير الطبي لمشروع جليا، وهو مجموعة تصنع الأجهزة الطبية لمناطق الصراع.
كان اللوح (36 عاما) يبحث عن المساعدة في شراء معدات لأجهزة غسيل الكلى. وكان يعالج مرضى الكلى في غزة منذ عام 2020.
وقال لوباني إنه عندما تحدثا تذكر اللوح كيف مات المرضى في حرب غزة عام 2014 لعدم تمكن المستشفيات من توفير معدات مثل أجهزة غسيل الكلى والأنابيب والإبر وغيرها.
وأخبر لوباني رويترز بأن اللوح سأل عن المعدات التي يمكن تصنيعها في غزة باستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد وأنه “لسوء الحظ، كان الجواب ‘ليس كثيرا في مجال غسيل الكلى'”.
وذكر الأطباء إنه في عام 2007، عندما بدأ الحصار الإسرائيلي، لم يكن لدى غزة خبراء معتمدون في علاج أمراض الكلى.
لكن بحلول أكتوبر تشرين الأول 2023، كان لديها ثلاثة منهم مع وجود 1061 مريضا يتلقون غسيل الكلى في ستة مستشفيات، وفقا لمنظمة الصحة العالمية.
وقال متحدث باسم منظمة الصحة لرويترز إنه منذ بدء الحرب منحت إسرائيل ومصر التصاريح لما يصل إلى 153 من مرضى الكلى في غزة لاستكمال العلاج في الخارج، لكن لم يتمكن الجميع من المغادرة.
وأشار المتحدث إلى أنه مع تدمير أو إتلاف الكثير من معدات غسيل الكلى بسبب القتال، تلقى 760 مريضا العلاج في منشأتين حتى 25 أبريل نيسان. وقال المتحدث إنهم يتلقون هناك رعاية جزئية فقط مما يجعلهم عرضة للأمراض ويزيد حالاتهم سوءا.
وقال إن باقي المرضى لم يسجلوا لإجراء غسيل الكلى لذا من المحتمل أنهم لم يعودوا على قيد الحياة.
وقبل أقل من شهر من هجوم حماس، حضر اللوح اجتماعا لقيادة برنامج لأطباء غزة من أجل تلقي تدريب متخصص في أمراض الكلى في القطاع بدلا من الخارج.
وذكر ثلاثة أطباء مطلعين على الخطط لرويترز إن الهدف على المدى الطويل كان إنشاء برنامج لزراعة الكلى. وكانت عمليات زرع الأعضاء الخيار الأفضل لأن الحصار جعل من الصعب الاعتماد على إمدادات غسيل الكلى.
يتذكر لوباني كيف أن اللوح كان “تفكيره واسع الأفق حقا، مثل: سنصل بعلاج أمراض الكلى إلى مستويات عالمية”.
لكن بعد خمسة أسابيع من مكالمة طبيب الكلى مع لوباني، قُتل اللوح في ضربة جوية على منزل أهل زوجته بالقرب من مستشفى الشفاء، حسبما قال أقاربه وزملاؤه.
وغادر أخصائي آخر في الكلى غزة في يناير كانون الثاني ليبقى واحد فقط هناك حاليا.