شدد أستاذ القانون الدولي الأمريكي جون كويغلي، على أن مجلس الأمن الدولي مُلزم بتنفيذ قرارات محكمة العدل الدولية المتعلقة بقطاع غزة، خاصة مع عجز الأمم المتحدة ومؤسساتها عن وقف الإبادة الإسرائيلية بحق الفلسطينيين منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
وفي حديث مع الأناضول، حذر كويغلي المتقاعد من جامعة ولاية أوهايو، من أن عدم تنفيذ قرارات محكمة العدل بغزة يُضعف موقفها ومصداقيتها، ويجعلها بنظر كثيرين “نمرا من ورق”.
ورغم اتخاذ المجتمع الدولي خطوات عبر محكمة العدل الدولية، باعتبارها الهيئة القضائية للأمم المتحدة، لوقف الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، إلا أن هذه الخطوات لم تنجح حتى الآن في وضع حد لهذه الجرائم.
ووفق تقارير صادرة عن منظمات تابعة للأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، فقد انتهكت إسرائيل اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وقانون الحرب وحقوق الإنسان في غزة.
ومع ذلك، أثارت المناقشات حول فاعلية المحاكم الدولية في التحقيق بهذه الانتهاكات ومحاسبة المسؤولين تساؤلات جدية.
ويبدو أن المحاكم الدولية لم تتخذ بعد الخطوات اللازمة، ولم تكن فعّالة بالقدر المطلوب في مواجهة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بقطاع غزة، والتي تُعد انتهاكا صريحا لقواعد القانون الدولي.
** قضيتا جنوب إفريقيا ونيكاراغوا
القضيتان المرفوعتان أمام محكمة العدل الدولية بشأن الإبادة الجماعية، إحداهما من جنوب إفريقيا ضد إسرائيل والأخرى من نيكاراغوا ضد ألمانيا، تسلطان الضوء على أشكال الإبادة التي تصورتها الاتفاقية الدولية لمنع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية.
في الدعوى التي قدمتها في 29 ديسمبر/ كانون الأول 2023، تتهم جنوب إفريقيا، إسرائيل بقتل الفلسطينيين بشكل مباشر وبالتسبب في موتهم عبر حرمانهم من وسائل العيش الأساسية.
أما نيكاراغوا فتسعى عبر قضية رفعتها في 1 مارس/ آذار 2024 إلى إلزام ألمانيا بوقف دعمها العسكري لإسرائيل الذي “يُسهل ارتكاب إبادة” بحق فلسطينيي غزة.
وعند صياغة اتفاقية الإبادة الجماعية عام 1948 خططت الأمم المتحدة لتفويض محكمتين بمحاكمة جرائم الإبادة الجماعية: الأولى هي محكمة العدل الدولية التي كانت بدأت عملها بالفعل، والثانية هي محكمة جنائية دولية مستقلة تُعنى بملاحقة ومعاقبة مرتكبي هذه الجرائم.
ولم يتم إنشاء محكمة جنائية دولية مستقلة فور اعتماد اتفاقية الإبادة الجماعية بسبب الخلافات السياسية بين الدول حول صلاحيات هذه المحكمة وطبيعة اختصاصاتها؛ لذا، لم يتمكن المجتمع الدولي من تنفيذ هذا الجزء من الخطة في البداية.
إلا أن المحاكم الجنائية المؤقتة التي أنشأتها الأمم المتحدة لاحقا، إضافة إلى المحكمة الجنائية الدولية التي تأسست عام 2002، تؤدي هذا الدور جزئيا، وإن كان ذلك خارج إطار الاتفاقية الأصلية.
** سلطة “محدودة للغاية”
وتعليقا على موقف محكمة العدل الدولية من الإبادة الجماعية الإسرائيلية بقطاع غزة، قال الأكاديمي كويغلي في حديث مع الأناضول، إن سلطة المحكمة في التعامل مع جرائم الإبادة الجماعية “محدودة للغاية”.
وأوضح كويغلي أن قرار المحكمة الصادر في يناير/ كانون الثاني 2024 جاء بعبارات قوية، حيث قال: “أبلغت المحكمة إسرائيل بضرورة الامتناع عن أعمال القتل. ومع ذلك، لا يمكن للمحكمة أن تأمر بوقف إطلاق النار كما فعلت في النزاع الأوكراني الروسي؛ لأن ولايتها القضائية على الدول فقط، وليس على الجهات غير الحكومية مثل حماس”.
وأضاف: “وقف إطلاق النار يتطلب وقف الأعمال العدائية من كلا الجانبين. وفي هذه الحالة، كان بإمكان المحكمة فقط مطالبة إسرائيل بالامتناع عن أعمال القتل، وهو ما قامت به بالفعل في قرارها في يناير الماضي”.
وأشار كويغلي إلى أن عدم تنفيذ قرارات محكمة العدل الدولية يضعف موقفها ومصداقيتها، وقال: “إذا تمادت المحكمة في إصدار أوامر لإسرائيل، فقد تواجه مشاكل تؤدي إلى وصفها من قبل كثيرين بأنها نمر من ورق. فالمحكمة قادرة على إصدار قرارات، لكن هذه القرارات غالبًا لا تُنفذ”.
واعتبر أن هذا الوضع يحدّ من قدرة المحكمة على القيام بدورها الكامل في قضايا معينة.
وأضاف: “بموجب ميثاق الأمم المتحدة، يُلزم مجلس الأمن بتنفيذ قرارات محكمة العدل الدولية. ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بغزة، تدرك المحكمة أن مجلس الأمن لن يقوم بتنفيذ قراراتها”.
** غزة ليست كالبوسنة وكرواتيا
كويغلي أوضح أن الوضع في غزة يختلف بشكل كبير عن قضايا الإبادة الجماعية التي نظرت فيها محكمة العدل الدولية سابقًا، مثل قضية البوسنة ضد صربيا (1993-2007) وقضية كرواتيا ضد صربيا (2010-2015).
وقال: “في قضيتي البوسنة وكرواتيا، ركزت المحكمة فقط على أعمال القتل لتحديد جريمة الإبادة الجماعية”.
وأضاف موضحا: “الوضع في غزة أكثر تعقيدا وشمولية. الأمر لا يقتصر على القتل فقط، بل يشمل أيضا فرض ظروف معيشية قاسية بشكل متعمد على جميع السكان، وهي ظروف تؤدي إلى التدمير الجسدي للشعب الفلسطيني”.
وتابع: “ما يحدث في غزة يمثل انتهاكا واضحا لأحد مواد اتفاقية منع الإبادة الجماعية. لا يمكن لإسرائيل أن تفلت من المسؤولية عن جريمة الإبادة الجماعية؛ لأن هناك سياسة تدمير أكثر شمولية ومنهجية تُنفذ في غزة”.
وتطرق كويغلي إلى التأخير الذي يواجهه النظر في القضايا بمحكمة العدل الدولية، قائلا: “عادةً ما تمنح المحكمة الأطراف من 6 إلى 12 شهرًا لتقديم الأدلة، يليها إجراء مناقشات إضافية حول الاختصاص القضائي”.
وأوضح أن هذه الإجراءات تستغرق من سنتين إلى ثلاث سنوات، أو حتى أكثر، للوصول إلى قرار نهائي.
وأضاف: “هذا التأخير يجعل القرارات المتعلقة بالموضوع غير فعالة في التعامل مع الأوضاع المستمرة على الأرض، والحل يكمن في اللجوء إلى آلية التدابير المؤقتة لتوفير حماية فورية”.
** أهمية المشاركة الدولية
في هذا الصدد، أشار كويغلي إلى أهمية انضمام دول أخرى للقضايا المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية، معتبرا أن “انضمام هذه الدول يُعزز الزخم القانوني ويشرك أطرافا إضافية في عملية التقاضي”.
وأردف: “على سبيل المثال، في قضية أوكرانيا، انضم للقضية عدد كبير من الدول الغربية. ومع ذلك، فإن عدد الدول التي قررت الانضمام لقضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل لا يزال محدودا”.
وأضاف: “آلية الانضمام هذه مهمة جدا، لكن الأمر يعتمد على قرار الدول بشأن استخدامها. آمل أن تنضم المزيد من الدول لدعم قضية جنوب إفريقيا. في بعض الأحيان، تفضل الدول الانتظار حتى الوصول إلى المرحلة الموضوعية من القضية، وهو ما لم يحدث بعد في هذه القضية”.
وانضمت عدة دول لدعم جنوب إفريقيا في القضية ضد إسرائيل، منها تركيا، ونيكاراغوا، وفلسطين، وإسبانيا، والمكسيك، وليبيا، وكولومبيا. كما أعلنت مصر في بيان في مايو/ أيار الماضي “اعتزامها التدخل” لدعم جنوب إفريقيا في الدعوى نفسها.
وتحدث كويغلي عن الوضع الإنساني بقطاع غزة، قائلا: “بالنظر إلى الأحداث الجارية في شمال غزة، مثل مخيم جباليا، نجد أن إسرائيل تجبر السكان على مغادرة هذه المناطق في ظروف قاسية يموت فيها الناس. حتى الأمم المتحدة صرحت بأن المجاعة قد بدأت، مما قد يدفع المحكمة إلى الاعتراف بأن هناك جرائم إبادة جماعية تُرتكب”.
وختم حديثه بالقول: “من المحتمل أن تعترض إسرائيل على اختصاص المحكمة بالنظر في القضية؛ مما سيضطر المحكمة إلى اتخاذ قرار بشأن اختصاصها. أعتقد أن المحكمة ستؤكد هذا الاختصاص، ما يعني أن إسرائيل ستُجبر على تقديم دفاعها حول مضمون الدعوى”.