الاتحاد الأوروبي وروسيا
ألقى الغزو الروسي لأوكرانيا الذي يتواصل لليوم السابع بتبعاته على مجمل النظام العالمي: أعاد خلط أوراق جيوسياسية، ووضع موسكو في موقع ”المنبوذ“ دوليا، ووحّد الدول الغربية في مواجهة الرئيس فلاديمير بوتين، وأيقظ التهديد النووي من سباته.
وفي ما يأتي عرض لأبرز المتغيرات التي سبق لمسؤولين ومحللين أن اعتبروها غير مسبوقة منذ حقبة الحرب الباردة:
روسيا دولة ”منبوذة“
يُعد الغزو الذي بدأ فجر الـ24 من شباط/ فبراير، نقطة تحول كبرى.
تتعدد الأسباب لذلك، ومنها أن الغزو ”أطاح بآمال أوروبا في حقبة ما بعد الحرب الباردة، في أن تكون بمنأى عن حرب ضخمة“، وفق المحلل في مجموعة ”أوراسيا“ البحثية، آلي واين.
ورأت أطراف عدة تتقدمها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي وحتى الأمانة العامة للأمم المتحدة، أن غزو روسيا لجارتها الشرقية، خرق صارخ لمبادئ النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية.
وجاء رد الغربيين ”هائلًا“ و ”سريعًا“، عبر سيل من إجراءات اقتصادية غير مسبوقة بحجمها: عقوبات مالية لم توفر بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف والأثرياء المقربين من الكرملين، إغلاق مجالات جوية في وجه الطائرات الروسية، الاستبعاد من منافسات رياضية كبرى.
وترى الأستاذة في جامعة كورنيل الأمريكية، سارة كريبس، أن ”روسيا ستكون منبوذة، ومن الصعب تخيّل كيف ستتمكن من استعادة ما يشبه الحالة الطبيعية في تفاعلاتها الدولية“.
نهاية ”الموت الدماغي“ للناتو
في أواخر 2019، اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن حلف شمال الأطلسي (الناتو) بات في حالة ”موت دماغي“، في ظل خلافات بين أعضائه وسوء إدارة من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي شهد عهده اضطرابا في العلاقات بين جانبي المحيط.
ومطلع 2021، خلف جو بايدن ترامب في البيت الأبيض، وسعى لتطبيع العلاقات مع الحلفاء في الناتو.
وأراد بايدن ،أيضا، أن يكون الحلف جزءا من صراع النفوذ الإستراتيجي مع الصين؛ ما أثار تحفظات حلفاء رأوا أن مواجهة كهذه ليست ضمن الأسباب الموجبة لنشوء الحلف.
وأسّس الحلف في مطلع الحرب الباردة لتوفير حماية من واشنطن، المقتدرة نوويا، للقارة العجوز في مواجهة الاتحاد السوفيتي.
ومع الأزمة الراهنة عاد الحلف إلى دوره التاريخي: مواجهة موسكو.
ويرى واين أن ”الغزو الروسي عزّز حلف الناتو وأعاد شدّ الأواصر عبر الأطلسي“، معتبرا أن استمرار هذا ”التماسك“ على المدى البعيد وتأسيسه لمقاربة مشتركة بشأن احتواء روسيا، ليس مضمونا بعد.
تسارع أوروبا الدفاعية
كان الدبلوماسي الفرنسي جان مونيه يعتبر أن أوروبا ”تصنعها الأزمات“، وبنيانها السياسي سيكون حصيلة حلول هذه الأزمات.
وبعد أكثر من أربعة عقود على وفاة هذا السياسي، الذي يعد من ”الآباء المؤسسين“ للاتحاد الأوروبي، يثبت الظرف الراهن صحة نظريته أكثر فأكثر.
وسرّع الغزو الروسي لأوكرانيا من توجّه الدول الـ27 في التكتل لتعزيز قوتها الدفاعية، واتخاذ خطوات غير معهودة، خصوصا في حقبة ما بعد الحرب الثانية.
خصصت دول الاتحاد نصف مليار يورو لتوفير أسلحة إلى أوكرانيا، في إجراء تاريخي أوروبي لدعم عسكري خلال نزاع.
المفاجأة الكبرى جاءت من ألمانيا، إذ اتخذ أولاف شولتس، المستشار الذي تولى منصبه منذ أشهر معدودة فقط، قرارات تشكّل انفصالا تاريخيا مع عقيدة برلين، بتسليم كييف أسلحة فتاكة خلال الحرب.
ولم تكن ألمانيا الوحيدة التي تقوم بخطوة وطنية تاريخية كهذه، إذ قابلتها السويد وفنلندا بدعم كييف بالسلاح.
وأرفق شولتس خطوته بقرارات داخلية تعكس مدى التغيير الذي فرضه الغزو الروسي: ستخصص برلين 100 مليار يورو لتحديث منظومتها الدفاعية، وتبدأ باستثمار أكثر من 2% من إجمالي الناتج المحلي سنويا في المجال الدفاعي، بعدما كان ضعف موازنتها العسكرية مقارنة بنظرائها في الأطلسي، محل انتقاد خصوصا من واشنطن.
لا مكان للحياد
تحوّل جذري آخر قامت به سويسرا بالتخلي عن حيادها التاريخي، وهو مبدأ ”لا يعني عدم الاكتراث“، وفق رئيس البلاد الاتحادية إيغناسيو كاسيس.
اختارت سويسرا، التي تعد مركزا ماليا محوريا عالميا، وكانت حتى أسابيع خلت مضيفة لقاءات دبلوماسية أمريكية روسية سعيا لنزع فتيل الأزمة، أن تنضم إلى العقوبات الاقتصادية الواسعة النطاق للاتحاد الأوروبي على روسيا.
ولم تكن سويسرا الوحيدة التي خرجت عن مبدأ الحياد، فما قامت به فنلندا والسويد أيضا جعلهما أقرب من أي وقت مضى لطلب الانضمام إلى الحلف الأطلسي.
وفي حين ترى كريبس أن ”دولا مثل: اليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، وسنغافورة، شكّلت جبهة موحّدة ضد الغزو“، امتنعت أخرى، مثل: الهند، والإمارات، عن إدانة روسيا، على رغم الضغوط الدبلوماسية الأمريكية.
الإحراج الصيني
لروسيا أيضا حلفاء وأصدقاء في العالم، مثل فنزويلا ورئيسها نيكولاس مادورو، أو إيران التي دعت إلى وقف الحرب، لكن حمّلت مسؤوليتها لواشنطن.
على المكيال الآخر في ميزان العلاقات الدولية، تقف الصين برئاسة شي جين بينغ، الذي استقبل بوتين مطلع شباط/ فبراير على هامش دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين.
تجد الصين نفسها الآن تحت مجهر الغرب بشكل إضافي، خصوصا لتبيان إلى أي مدى ستتمكن من أن تعوّض لروسيا، آثار العقوبات الاقتصادية الغربية.
سياسيا، تمضي بكين بحذر بين النقاط: فعلى رغم عدم إدانتها الصريحة للغزو، امتنعت عن التصويت في مجلس الأمن على قرار يدينه، ولم تستخدم حق ”الفيتو“. أيضا، حضّت الطرفين على التفاوض، وأعربت لكييف عن ”أسفها الشديد“ للحرب.
ويرى واين أن بكين في موقف ”محرج“، فكلما ”طال أمد النزاع وأصبح أكثر دموية، سيكون أصعب على الصين تحقيق توازن بين دعمها المتطلبات الروسية (…) ورغبتها في عدم تلقي مزيد من العتاب عبر الأطلسي“.
التهديد النووي يطلّ برأسه
أمر بوتين، وخلال لقاء متلفز مع مسؤولين عسكريين، الأحد الماضي، بوضع ”قوات الردع“ في حال تأهب، وهي وحدات هدفها ردع هجوم ”بما في ذلك في حال حرب تتضمن استخدام أسلحة نووية“.
رأى العالم في هذا الإعلان تلويحا من بوتين باحتمال اللجوء إلى السلاح النووي ردّا على الضغوط الغربية.
اعتبرت واشنطن أن ذلك يعني أن الرئيس الروسي ”يواصل تصعيد هذه الحرب بطريقة غير مقبولة على الإطلاق“، بينما رأى حلف الناتو أن الإجراء ”خطر“، ويعكس ”سلوكا غير مسؤول“.
وبحسب كريبس، أعطى ”القادة الروس بطريقة مكشوفة، إشارات متكررة إلى ترسانتهم النووية على أمل ثني الغرب عن تعزيز الدفاعات الأوكرانية“، محذّرة من أن ذلك سيؤدي إلى ”تآكل المحظور النووي القائم منذ عقود“.