تصاعدت في أوكرانيا مؤخرًا وبشكل ملحوظ عمليات تجنيد الرجال للخدمة العسكرية، وذلك مع ظهور وحدات التجنيد في أماكن لافتة، كما حدث خلال حفل موسيقي في العاصمة كييف لفرقة الروك الشهيرة “أوكيان إيلزي”، أو في منتجع فاخر، أو بالشوارع أو حتى في حفلات زفاف.
ووفقا لتقرير نشره موقع “راديو أوروبا الحرة”، فإن هذه الحملات تهدف إلى البحث عن رجال لم يسجلوا أنفسهم للخدمة بموجب قانون التعبئة العسكرية الذي أثار جدلاً واسعاً، والذي تم اعتماده في الربيع الماضي.
وفي بعض الحالات، كانت نتائج البحث عن مطلوبين للخدمة العسكرية مثيرة للجدل، إذ وثق مقطع مصور تم تصويره خارج حفل “أوكيان إيلزي” في قصر الرياضة بكييف في 11 أكتوبر، ضباطاً يجرّون رجلاً يرتدي ملابس مدنية على الأرض وهو يصرخ احتجاجاً، بينما كان الحضور يهتفون “عار عليكم”.
وهذا المشهد أبرز التباين الواضح بين عالمين متناقضين في أوكرانيا، حيث تستمر المعارك الدموية على طول جبهة تمتد 1200 كيلومتر، بينما تستمر الحياة العادية في المدن، حتى مع الهجمات الصاروخية وهجمات الطائرات المسيّرة الروسية التي تستهدف العديد منها.
“نصف يبكي.. ونصف يفرح”
وفي هذا السياق، صرح أستاذ العلوم السياسية ومدير الأبحاث في مؤسسة المبادرات الديمقراطية في كييف، أوليكسي هاران، لراديو أوروبا الحرة، قائلاً: “نصف البلاد يبكي والنصف الآخر يقفز فرحاً”، مستخدمًا عبارة توضح الفجوة بين الجنود في الجبهة والمواطنين الذين يعيشون حياتهم نسبياً بلا قيود على الرغم من الحرب.
وتواصل أوكرانيا التعامل مع عدة تحديات، من بينها خطر سقوط مدينة رئيسية في دونباس، في ظل تقدم القوات الغازية المدعومة بالتفوق الجوي، ناهيك عن الهجمات المستمرة على البنية التحتية للطاقة، التي قد تجعل الشتاء القادم أكثر قسوة.
وعلاوة على ذلك، يواجه الدعم الغربي الحاسم – سواء من حيث الأسلحة أو المساعدات المالية أو الدبلوماسية – حالة من الغموض، مع اقتراب الانتخابات الأميركية والخلافات بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
ومع ذلك، تبرز قضية التجنيد كأحد أكبر التحديات الداخلية التي تواجهها أوكرانيا، إذ أوضح المحلل السياسي المقيم في كييف، أوليكسي كوشيل، بأن الحاجة إلى المزيد من الجنود أصبحت “مشكلة نمت إلى أبعاد هائلة”.
وأضاف أن هذا النقص يؤثر على الجبهة ويعزز الانقسامات في المجتمع، وهو أمر لا تحتاجه أوكرانيا في هذه اللحظة الحرجة، على حد وصفه.
من جانبه، أكد المحلل العسكري الأوكراني، بافلو ناروزني، أن هناك نقصًا حادًا في القوات على الخطوط الأمامية، قائلا: “ليس هناك ما يكفي من الأشخاص في الجبهة، و هذه حقيقة”.
واستشهد بمثال من الواقع قائلاً: “لدينا نقطة مراقبة يجب أن تضم 30 جنديًا في الخدمة، لكن في الواقع قد لا يتواجد فيها سوى من 5 إلى 7 عناصر فقط”.
وأضاف أن هذه المجموعة الصغيرة قد تجد نفسها تواجه هجومًا من 30 إلى 40 جنديًا روسيًا، مما يجعل من الصعب عليها الصمود.
في الوقت نفسه، أوضح سايمون شليغل، المحلل البارز في مجموعة الأزمات المتخصصة في الشؤون الأوكرانية، أن كييف لا تستطيع الفوز في “لعبة الأعداد” ضد روسيا، التي تتمتع بعدد أكبر بكثير من السكان وقيادة مستعدة لدفع ثمن دموي لتحقيق أهدافها.
تضاؤل الأعداد
وفي بداية الغزو الروسي عام 2022، كانت مراكز التجنيد مزدحمة بالمتطوعين الأوكرانيين الذين اصطفوا لتقديم خدماتهم، لكن في سنة 2023، تضاءلت تلك الأعداد بشكل كبير.
ومع أن القانون الجديد، الذي أقر في الربيع، يلزم الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و60 عامًا بتحديث بياناتهم في مراكز التجنيد، فإن هناك مشاكل عديدة تعترض طريق التعبئة الفعالة.
فعلى سبيل المثال، يواجه الجيش الأوكراني صعوبات في تدريب الجنود بسبب قلة المدربين المؤهلين، حيث إن العديد منهم قد قتلوا أو لا يزالون يقاتلون في الجبهة.
كما تفاقم الفساد بسبب تلك الأوضاع، إذ أفادت تقارير أن بعض الرجال تمكنوا من تجنب التجنيد عبر دفع رشاوى.
وتظل المخاوف الرئيسية بين الرجال الذين يتم استدعاؤهم للخدمة هي غياب أي قوانين تنظم التسريح أو اعتماد نظام المداورة، مما يثير القلق بين الجنود المحتملين من أنهم قد لا يتمكنون من مغادرة الخدمة بمجرد انضمامهم.
وفي هذا السياق، ذكرت صحيفة “أوكرانسكا برافدا” في 15 أكتوبر، أن مكتب المدعي العام سجل حوالي 18,300 حالة فرار من الخدمة العسكرية بين يناير وسبتمبر من هذه السنة، مما يمثل زيادة كبيرة مقارنة بنفس الفترة من العام المنصرم.
وفي حين أن جهود التجنيد القسري سبقت القانون الجديد، فإن التوترات بشأن تلك الجهود زادت مع استمرار الحرب.
والتوترات بين العسكريين والمدنيين، خاصة في الأماكن التي تكون فيها الحياة مستمرة بشكل طبيعي مثل المدن الكبرى، تخلق “خليطاً قابلاً للانفجار”، وفقًا لعضو البرلمان، أوليكسي هونتشارينكو، الذي اعتبر أن هذا الوضع “يعزز التوتر في المجتمع الأوكراني ويتيح الفرصة للدعاية الروسية لاستغلال هذه الخلافات”.
وإذا لم تتغير طريقة التعبئة، فإن التوقعات ستكون قاتمة، حسبما حذر المحلل، بافلو ناروزني، مضيفًا: “إذا استمر هذا الاتجاه السلبي، فإننا سنفقد بلدنا وشعبنا”.