يستمر لليوم السادس والعشرين، الاجتياح الإسرائيلي وحرب الإبادة في محافظة شمال قطاع غزة، وتحديدا في جباليا ومخيمها، حيث يعدم الجيش كل مظاهر الحياة في المنطقة.
ويؤكد الفلسطينيون أن إسرائيل تعمل على احتلال شمال غزة وتحويله إلى منطقة عازلة وتهجير المواطنين، تحت قصف دموي مكثف وحصار مطبق يمنع دخول الغذاء والماء والأدوية.
وبعد اجتياحين في ديسمبر/ كانون الأول 2023 ومايو/ أيار 2024، فإن هذه هي المرة الثالثة التي يجتاح فيها الجيش الإسرائيلي جباليا منذ بدء حرب الإبادة على قطاع غزة قبل أكثر من عام.
وخلال 25 يوما، خلّفت الإبادة في محافظة شمال غزة نحو ألف شهيد ومئات الجرحى والمعتقلين، وتدمير أحياء سكنية كاملة وتهجير عشرات آلاف الفلسطينيين جنوبا، وفق أرقام رسمية فلسطينية.
كما جرى إخراج المنظومتين الصحية والإغاثية عن الخدمة تماما، وتعطيل آبار المياه والمرافق الحياتية كاملة، ضمن سلسلة جرائم متواصلة يقول الفلسطينيون إن هدفها هو التهجير.
ورغم تشابه الآثار الكارثية للعمليات العسكرية بمختلف مناطق قطاع غزة، إلا أن ثمة فروق واضحة بين العملية العسكرية الراهنة وسابقاتها منذ بدء الإبادة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
وتمثل الإبادة في شمال غزة ترجمة لما تُعرف إسرائيليا بـ”خطة الجنرالات”، الرامية إلى تهجير مواطني محافظة شمال غزة، لاسيما عبر حرمانهم من المساعدات الإنسانية.
كما تهدف الخطة إلى “القضاء على ما تبقى من مقاتلي حركة حماس في شمال غزة، والسيطرة عسكريا على المنطقة بشكل كامل”، وفق مسؤولين ووسائل إعلام إسرائيلية.
ومع توالي أيام الإبادة في شمال غزة، اتضح جليا أن مخيم جباليا وضواحيه هو الهدف الرئيس لخطة التهجير، إذ تتركز فيه معظم عمليات الجيش الإسرائيلي.
وتتنوع هذه العمليات بين توغل بري وقصف مدفعي وغارات جوية بأنواع الطيران كافة، وتدمير المنازل والمنشآت المدنية والبنية التحتية والخدمات الحياتية الأساسية.
** بداية إبادة الشمال
مساء 5 أكتوبر الجاري، وفي عملية مُباغتة، تسللت قوات خاصة إسرائيلية وطوّقت جباليا ومخيمها من جهتي الشرق والغرب، تزامنا مع عشرات الغارات الجوية والأحزمة النارية.
وأعادت هذه الأحزمة للأذهان زخم نيران الأيام الأولى لحرب الإبادة، التي تواصلها إسرائيل بدعم أمريكي، وخلّفت أكثر من 144 ألف شهيد وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء.
واستفاق فلسطينيو شمال غزة صباح اليوم التالي على منشورات ألقتها مُسيرات إسرائيلية تنذرهم بالنزوح إلى ما زعمت أنها “منطقة إنسانية” في مواصي خان يونس جنوبي القطاع.
وقال متحدث الجيش الإسرائيلي: “نحن الآن في مرحلة جديدة، وعليكم النزوح فورا.. الجيش سيضرب جباليا بقوة شديدة جدا، وسيعمل في المنطقة لفترة طويلة”.
وخلافا لما أعلن، لم يمهل الجيش المواطنين فترة كافية للنزوح، فسرعان ما أغلق الشوارع الواصلة بين محافظة شمال غزة ومدينة غزة، عبر تدمير بنايات سكنية وإغلاق الطرق بركامها.
كذلك استهدف النازحين في تلك الطرق بنيران وقذائف فقتل العديد منهم، وبذلك استكمل تطويق منطقة الشمال كاملة، وفي قلبها جباليا، ومنع الدخول والخروج منها منذ اليوم التالي لبدء هذه الإبادة.
تزامنا مع ذلك، باشرت القوات الإسرائيلية تفجير عشرات المنازل والبنايات في جباليا ومحيطها عن طريق “روبوتات” مفخخة وبراميل متفجرة، ما دمر أحياء سكنية كاملة وقتل وجرح العديد من المواطنين.
وأعاق الجيش العمل الإغاثي للطواقم الطبية والدفاع المدني في انتشال الجرحى وجثامين القتلى، عبر الاستهداف المباشر لهم عند الاقتراب من الأماكن المستهدفة.
واتبع أسلوبا جديدا بمحاصرة مراكز إيواء النازحين والمدارس بجباليا ومخيمها وبيت لاهيا وبيت حانون، وإجبار مَن فيها على النزوح، وحرقها وتدميرها وفصل النساء عن الرجال واعتقال العديد منهم والتنكيل بهم.
لم يكتفِ الجيش الإسرائيلي بذلك، بل لاحق مَن أصرّ من السكان على البقاء في منازلهم، وشنّ غارات دموية على مربعات سكنية مأهولة في مختلف المناطق، ما قتل وجرح العشرات.
وقام أيضا بإخلاء مربعات سكنية عديدة بشكل منظم عبر حصارها والمناداة على السكان بالخروج من منازلهم وتوجيههم بالقوة إلى مسارات محددة للنزوح جنوبا.
وحاصر المستشفيات الثلاثة العاملة في شمال غزة وهي كمال عدوان والإندونيسي والعودة، وأخرجها عن الخدمة بشكل كامل.
كذلك استهدف مركبات الإسعاف والدفاع المدني، التي باتت عاجزة تماما عن تقديم الخدمة، واعتقل عددا من كوادرها، واقتحم لاحقا مستشفى كمال عدوان ونكّل بالطاقم الطبي والمرضى بداخله.
يأتي ذلك كله في ظل تجويع متعمد انتهجه الجيش الإسرائيلي حتى قبل بدء الاجتياح بأسبوعين، إذ أوقف دخول شاحنات المساعدات والمواد الغذائية لمحافظة شمال غزة بشكل كامل، ومنع إدخال الوقود والمعدات الطبية للمستشفيات
وأظهرت إحصائية صادرة عن وزارة التنمية الاجتماعية بغزة تقلص عدد شاحنات المساعدات التي سمح الجيش بمرورها لمحافظة الشمال بنسبة 27 بالمئة بين يوليو/ تموز وسبتمبر/ أيلول الماضيين، وصولا لتوقفها تماما منذ مطلع أكتوبر الجاري.
والفلسطينيون المتبقون في منازلهم أو المباني التي نزحوا إليها داخل شمال غزة، وعددهم 100 ألف وفق الدفاع المدني، يعيشون أوضاعا مأساوية.
ويعاني هؤلاء جراء الغارات المكثفة ونيران الآليات والمسيرات، وترقب وصول الجيش إليهم في أي لحظة وتهجيرهم بالقوة، والصعوبة البالغة في الحصول على غذاء أو ماء أو دواء.
كل ما سبق يؤكد أن الاجتياح الراهن لجباليا مختلف تماما عن كل ما سبقه، وأن السلوك العملياتي للجيش الإسرائيلي يتوافق مع ما تم تسريبه حول تنفيذ “خطة الجنرالات”.
ويطرح ذلك تساؤلات بشأن القيمة التي يمثلها مخيم جباليا لدى الفلسطينيين في شمال غزة، ولماذا جاء في صلب أهداف الجيش الإسرائيلي لتنفيذ خطة التهجير؟
** أهمية جباليا
يقع مخيم جباليا ضمن نطاق بلدة جباليا إلى الشمال من مدينة غزة، وهو بمثابة العمود الفقري لمحافظة شمال غزة، وأكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجروا من بلداتهم الأصلية إلى القطاع إبان نكبة عام 1948.
ومع أن مساحته لا تتجاوز 1.5 كيلومتر مربع، إلا أنه يضم كتلة سكانية تعد من الأكثر اكتظاظا على مستوى القطاع، ويحيط به عدد من البلدات والتجمعات السكانية أبرزها بيت لاهيا، وبيت حانون.
تاريخيا، شكّل مخيم جباليا جبهة محورية في مسار النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، فمنه انطلقت شرارة الانتفاضة الأولى “انتفاضة الحجارة” عام 1987.
وامتدت الانتفاضة لاحقا إلى سائر مناطق قطاع غزة، عبر التظاهرات الشعبية والاشتباك مع الجيش الإسرائيلي بإلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة (مولوتوف) على دورياته وجنوده ومراكزه.
ومع اندلاع الانتفاضة الثانية “انتفاضة الأقصى” عام 2000، كان للاجئي المخيم دور لافت من خلال تشييع جنازات شهداء الانتفاضة والانطلاق منها صوب مواقع وثكنات الجيش الإسرائيلي والاشتباك مع جنوده.
ثم ما لبثت أن تطورت أدوات الاشتباك لتشمل إطلاق النار واقتحام المستوطنات المقامة على أراضي القطاع وحفر أنفاق من تحتها وتفجيرها.
وهو ما توّج بإعلان إسرائيل تفكيك مستوطناتها وانسحابها أحادي الجانب من غزة في سبتمبر/ أيلول 2005.
خلال سنوات الانتفاضة، أدركت إسرائيل القيمة التي تمثلها جباليا في الحالة الثورية الفلسطينية، فكان للمخيم نصيب من الاجتياحات المتكررة للجيش الإسرائيلي.
وأملت إسرائيل عبر الاجتياحات إخماد جذوة الانتفاضة المشتعلة وقتل أكبر عدد من نشطاء الفصائل الفلسطينية الذين اجتذبوا آلاف الشباب إلى الأجنحة العسكرية لتلك الفصائل.
ومثل سائر مخيمات ومدن في غزة، اجتاح الجيش الإسرائيلي جباليا ومخيمها مرات عديدة بين عامي 2001 و2003، إلا أن المواجهة الأبرز كانت قبل 20 عاما، وتحديدا مع نهاية سبتمبر ومطلع أكتوبر 2004.
آنذاك أطلق الجيش عملية “أيام الندم”، وسمتها الفصائل الفلسطينية “أيام الغضب”، وشملت بلدات جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون.
واستغرق الاجتياح 17 يوما، وخلّف ما يزيد عن 160 شهيد فلسطينيا ومئات الجرحى، ومني فيها الجيش الإسرائيلي بخسائر بشرية ومادية عديدة.
وكان من أهم ملامح التطور في العمل العسكري للفصائل الفلسطينية التي برزت في تلك المواجهة:
– صمود المقاومة في التصدي للجيش الإسرائيلي على مدى 17 يوما، وهي المدة الأطول التي تسجلها عملية عسكرية من هذا النوع في تلك الفترة.
– الإعلان عن عدد من الأسلحة الجديدة التي استخدمها المقاتلون الفلسطينيون في مواجهة آليات الجيش وقواته وأبرزها: العبوة الناسفة من نوع “شواظ 3″، وقاذفي “الياسين” و”البتار” المضادين للدروع، وكلها من إنتاج محلي.
– الكشف لأول مرة عن المتحدث العسكري باسم كتائب عز الدين القسام “أبو عبيدة”، الذي عقد مؤتمرا صحفيا هو الأول من نوعه خلال الاجتياح، شرح فيه طبيعة تواجد الجيش الإسرائيلي على أطراف المخيم وآليات التصدي له.
– تطور العمل الإعلامي من خلال ظهور أفلام ومشاهد توثق بالصوت والصورة عمليات نشطاء الفصائل الفلسطينية التي استهدفت الجيش الإسرائيلي وآلياته.
ومثّلت هذه المواجهة نقطة محورية في مسار الانتفاضة، إذ قالت الفصائل الفلسطينية إن الجيش الإسرائيلي عجز عن اقتحام المخيم وظل يناور مُسلحيها على أطرافه، واندحر عن جباليا دون تحقيق أهدافه في “إخضاع المقاومة”.
** الملجأ في الحروب
خلال الحروب السابقة التي شنتها إسرائيل على غزة في أعوام 2008-2009، 2012، 2014، و2021، استقبل مخيم جباليا النازحين من سكان البلدات الحدودية المحيطة.
فقد لجأ إليه فلسطينيون من بيت لاهيا وبيت حانون وعزبة عبد ربه وحيّي الكرامة والتوام وغيرها، باعتباره المنطقة الدافئة البعيدة نسبيا عن مسرح العمليات البرية للجيش الإسرائيلي.
ومع بدء حرب الإبادة الإسرائيلية الحالية، وخلال الأيام الأولى التي شهدت اشتداد القصف الإسرائيلي جوا وبرا وبحرا، تعزز دور المخيم وسكانه في احتضان النازحين وإيوائهم، وإمدادهم بمستلزمات الإغاثة.
وشكّل مخيم جباليا عمقا جغرافيا لسائر سكان محافظة شمال غزة في تعزيز صمودهم وتحدي المخططات الإسرائيلية في التهجير.
وأفادت تقديرات السلطات المحلية ببقاء نحو 700 ألف فلسطيني بمحافظتي غزة وشمال القطاع، ورفضهم إنذارات الجيش الإسرائيلي بالإخلاء، ما شكل عائقا كبيرا أمام مخططه لتهجير مواطني “شمال وادي غزة”.
واليوم، تقف جباليا ومخيمها أمام مفترق طرق صعب في مسار حرب الإبادة الإسرائيلية التي دخلت عامها الثاني، ويواجه سكانها أصعب مراحل الحرب.
إذ أعلن الجيش الإسرائيلي أنه بعد 23 يوما من الاجتياح المتواصل لجباليا، تم “تهجير نحو 50 ألف من السكان، واعتقال حوالي 600 مسلح، فيما تواصل قوات اللواءين جيفعاتي ومدرعات 401 العمل في المنطقة”.
ويقدّر مراقبون ومختصون إسرائيليون وعرب أن المعركة في جباليا تمثل أهمية كبيرة على صعيد احتمال تهجير مواطني قطاع غزة بأكمله من عدمه.
ففي حال نجحت خطة التهجير بالإبادة في مخيم جباليا، كما تريدها إسرائيل، فسيتيح ذلك تطبيقها على سائر مناطق الشمال ومدينة غزة لاحقا.. وهو ما ستجيب عنه الأيام المقبلة.