“الناس تموت تحت الأنقاض ولا مغيث”، هكذا اختصر رئيس قسم التدخل السريع في إدارة الإطفاء والإنقاذ بالدفاع المدني أبو رأفت ظاهر الوضع المأساوي، مع خروجهم وبقية الفرق الإنسانية من الخدمة في محافظة شمال قطاع غزة للأسبوع الرابع على التوالي، مما أثر بشكل كبير على حياة من تبقى من السكان.
وتعود آخر مهمة إنسانية للدفاع المدني وطواقم الإسعاف في شمال القطاع ليوم 23 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عندما تحرك ظاهر برفقة 5 سيارات تابعة للدفاع المدني، و10 سيارات تابعة للخدمات الطبية العسكرية، هربا من الاستهداف الإسرائيلي، بعدما أصابت قذيفة مدفعية سيارة إسعاف ودمرتها.
سلك هذا الموكب الطريق باتجاه مقبرة بيت لاهيا في شمال القطاع، “وإذا بمسيّرة إسرائيلية من نوع كوادكابتر تحلّق فوقنا وتطالبنا عبر مكبر صوت بالترجل من السيارات وتركها والتوجه نحو الحاجز العسكري الإسرائيلي قرب المستشفى الإندونيسي”، وفقا لما روى ظاهر للجزيرة نت.
وفي غفلة من “الكوادكابتر”، نجح ظاهر و5 آخرين في الهرب والتوجه نحو مستشفى كمال عدوان، وبعد 3 أيام على هذه الحادثة اقتحم جيش الاحتلال المستشفى، وأجبر حوالي 400 إلى 500 نازح على مغادرتها. وروى الرجل “الاحتلال جردني وزملائي والممرضين من ملابسنا، وأجبرنا على السير نحو المستشفى الإندونيسي واحتجزونا ليوم كامل في موقع عسكري، حيث شاهدت معتقلين داخل حفرة عميقة”.
بعد التحقق من الشخصية بواسطة أجهزة حديثة، أفرجت قوات الاحتلال عن ظاهر، وطالبته بالنزوح نحو جنوب القطاع، غير أنه توجه نحو مدينة غزة، فيما اعتقلوا من كانوا معه من زملائه، ليصل مجموع معتقلي الدفاع المدني إلى 10 منذ العملية العسكرية البرية، التي بدأت بمخيم جباليا في 5 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتوسعت لتشمل كل بلدات ومناطق شمال القطاع.
شهداء تحت الأنقاض
أحد المعتقلين ممن كانوا في الحفرة داخل الموقع العسكري هو من منتسبي الدفاع المدني، ولم يستطع ظاهر التعرف عليه لاختلاف ملامح وجهه بعد تعرّضه للضرب والتعذيب الشديدين، ويقول “لم أعرفه إلا بعدما ناداني باسمي”، ويضيف “أحوال من كانوا داخل هذه الحفرة صعبة للغاية ومرعبة، ويضع الاحتلال بها من يقرر اعتقاله فيما يطالب الآخرين بالنزوح جنوبا عبر مسار محدد على طريق صلاح الدين”.
وظاهر هو آخر رجالات الفرق الإنسانية بالدفاع المدني والخدمات الطبية ممن كانوا يعملون في مخيم جباليا وشمال القطاع، ومنذ نزوحه القسري نحو مدينة غزة “يموت الناس تحت أنقاض منازلهم التي تدمرها الغارات الجوية فوق رؤوسهم ولا يجدون من يغيثهم وينجدهم”، وفقا لهذا المسؤول بالدفاع المدني.
وبفعل ضغط نداءات الاستغاثة منذ اجتياح جباليا وشمال القطاع كان ظاهر يرافق الفرق الميدانية، ويقدر أن ما بين 1200 إلى 1800 مفقود يقبعون تحت أنقاض المنازل والمباني المدمرة منذ خروج الدفاع المدني وطواقم الإسعاف والطوارئ عن الخدمة في تلك المناطق.
وبتأثر كبير، يقول ظاهر إن “عالقين تحت أنقاض منازلهم المدمرة كان يمكن إنقاذهم، غير أنهم فقدوا حياتهم بسبب عدم قدرتنا على الاستجابة لاستغاثاتهم، ومن بينهم أصحاب منزل يقطنه نحو 15 فردا، دمّرته غارات جوية إسرائيلية في شارع الهوجا بجباليا، ومكثوا أياما أحياء تحت الأنقاض قبل أن يلتحقوا بقوافل الشهداء”.
وفي ليلة 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، دمرت غارات جوية إسرائيلية حوالي 11 منزلا مأهولا، وأسفرت عن سقوط زهاء 150 شهيدا لم تتمكن فرق الدفاع المدني من الاستجابة لنداءاتهم بالاستغاثة، في مثال آخر يدلل به ظاهر على عمق المأساة في شمال القطاع، ويقول إن “الناس باتت تصلي الجنازة على الشهداء وهم تحت الأنقاض ومن دون انتشالهم أو دفنهم”.
إبادة وتهجير
حتى اليوم الأخير لهم في شمال القطاع، كان ظاهر وفرق الدفاع المدني والخدمات الطبية يعملون بحسب تطورات الميدان، ويهربون من الاستهداف من مكان إلى آخر، ويواصلون عملهم للحفاظ على مهامهم الإنسانية، ويقول “كنا نتحرك في الميدان وفق تحركات جيش الاحتلال، وكلما توغل في منطقة قريبة انتقلنا إلى أخرى داخل محافظة الشمال، ونحن نعلم أنه يسعى لتدمير الخدمات الطبية والإنسانية في المحافظة”.
ومنذ 25 يوما، هي المدة التي مضت على خروج خدمات الدفاع المدني والإسعاف عن الخدمة، تقتصر هذه الخدمات على متطوعين من المدنيين الذين لا يزالون متمسكين بالبقاء في منازلهم، ويهرعون لأماكن الاستهداف، وينبشون بأياديهم الخاوية وينتشلون ما يستطيعون من شهداء، وينقذون الجرحى، “ولعدم توفر أي سيارات إسعاف يتم نقل الجرحى لمستشفيي “كمال عدوان” أو “العودة” حملا على الأكتاف، أو إذا توفرت عربات تجرها الدواب”، بحسب ظاهر.
ويضع ظاهر هذا الاستهداف الإسرائيلي الممنهج للفرق الإنسانية في سياق خطة تهدف إلى “الإبادة والتهجير”، وتحويل محافظة شمال القطاع إلى منطقة غير قابلة للحياة، وتفريغها من سكانها سواء بالمجازر أو بالتهجير القسري.
وفي سياق هذا الاستهداف، يقول مدير عام الإمداد والتجهيز بجهاز الدفاع المدني الدكتور محمد المغير، للجزيرة نت، إن قادة مراكز الدفاع المدني الثلاثة في جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا قيد الاعتقال، والأخير أحد 3 من منتسبي الجهاز جُرحوا بنيران الاحتلال باستهداف مباشر لمركبات الدفاع المدني، واعتقلته قوات الاحتلال من داخل مستشفى “كمال عدوان” وهو على سرير العلاج.
دور حيوي
ورغم أن الاحتلال أجبر زهاء 100 من منتسبي جهاز الدفاع المدني على النزوح قسرا عن محافظة الشمال، فإن قيادة الجهاز حاولت مرارا استئناف عملها، وتواصلت مع هيئات دولية للتنسيق مع دولة الاحتلال لتشغيل المركبات التي تحدث عنها ظاهر، ولا تزال قابعة بالشارع، وكل من يقترب منها يعرض حياته للخطر.
ويقول المغير “إن الاحتلال يرفض عمل طواقمنا في شمال القطاع، والمؤسسات الدولية تستخدم أساليب ضغط ضعيفة لا تضع دولة الاحتلال أمام مسؤولياتها بموجب القوانين الدولية، الأمر الذي يستدعي طردها من الأمم المتحدة”.
ويُقدّر المغير أن أعداد المفقودين تحت الأنقاض منذ العملية البرية في جباليا وشمال القطاع تزيد عن 3 آلاف مفقود، ولا تستطيع طواقم الدفاع المدني الوصول إليهم، بسبب الخروج عن الخدمة وتوقف الاستجابة للمهام الإنسانية، بسبب الاستهداف الإسرائيلي.
ويقول رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني صلاح عبد العاطي إن للدفاع المدني والإسعاف دورا حيويا في أوقات النزاعات المسلحة، وقد كفل القانون الدولي الإنساني واتفاقية جنيف الرابعة حماية خاصة للعاملين في الفرق الإنسانية، لدورهم المهم في التخفيف من المصائب والكوارث.
ولكن كيان الاحتلال استهدف العاملين وعربات الفرق الإنسانية المميزة بألوان وإشارات خاصة، وقتل منهم خلال شهور الحرب 84 شخصا، وأجبر العاملين منهم في شمال القطاع على إخلائه قسرا، ما أدى إلى تعرض المدنيين هناك للمجازر والمذابح المروعة من دون أي استجابة لنداءات الاستغاثة، كما يضيف عبد العاطي في حديث للجزيرة نت.