الثلاثاء 9 رمضان 1445 ﻫ - 19 مارس 2024 |

برامج

شاهد آخر حلقاتنا اونلاين

تنازلات "ماكرون" تضرب نموذجه الاقتصادي في العمق

قد لا تكون التنازلات التي أقدم عليها الرئيس الفرنسي، إيمانويل #ماكرون، ذات معنى لرجل الشارع الذي يتقاضى ما هو أعلى بقليل من الحد الأدنى للأجور، لكنها بالتأكيد ضربة قاسية لنموذج اقتصادي كامل يبشر به الرئيس الشاب منذ ما قبل انتخابه.

وافق ماكرون على رفع الحد الأدنى للأجور بمئة يورو، ليصبح قريبا من 1600 يورو شهريا، وحمّل الخزينة العامة هذه الزيادة بدلا من أرباب الأعمال، وألغى الضرائب على الدخل من ساعات العمل الإضافية. وسبق له أن تراجع عن زيادة الضرائب على الديزل، التي كانت السبب المباشر لاحتجاجات السترات الصفر.

جواب المتظاهرين على التنازلات لا يمكن معرفته إلا في الشارع، لسبب وجيه، هو أن الاحتجاجات ليست ذات طبيعة هرمية، ولا يتحكم بها سوى المزاج الشعبي للفئات ذات الخلفيات المختلفة المشاركة فيها. لكن ما يجدر فحصه هو ما تبقى من برنامج ماكرون الاقتصادي بعد هذه التنازلات.

اللافت أن الأرقام المجردة تعطي ماكرون سجلا اقتصاديا قويا في الأشهر السبعة عشر التي قضاها في الحكم. فهو يستطيع أن يقول إنه نجح في خفض البطالة من 10.1% عند انتخابه إلى نحو 9%، ما يضعه على الطريق إلى تنفيذ تعهده بخفضها إلى 7% في نهاية ولايته. والنمو الاقتصادي تحسن إلى 1.7%، وهي واحدة من أفضل النسب بين الدول الأوروبية الكبرى.

وأما عجز الميزانية، فانخفض خلال العام الحالي إلى 2.6% من الناتج المحلي الإجمالي تقريبا، وتلك هي المرة الأولى منذ العام 2007 التي ينخفض فيها العجز دون حاجز الـ3% من الناتج، أي الحد المقبول في معاهدة ماستريخت الأوروبية.

وتكفي قراءة تقارير #صندوق_النقد_الدولي لمعرفة مدى الإشادات التي يسبغها الاقتصاديون على الإصلاحات الفرنسية “الاستباقية”، بوصفها أشبه “بإصلاح السقف فيما الشمس مشرقة”.
أين المشكلة إذاً؟

ما بدا واضحا من أحداث الأسابيع الماضية أن برنامج ماكرون لتحرير الاقتصاد يصطدم بالتقاليد الاشتراكية العميقة في النموذج الفرنسي. ففرنسا لديها واحد من أعلى معدلات الإنفاق الحكومي بين الدول الغنية الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). إذ إن حجم ميزانيتها يقارب 57% من ناتجها المحلي الإجمالي البالغ 2.36 تريليون يورو.

في القلب من هذا الإنفاق الضخم تقديمات اجتماعية سخية لا مثيل لها في الدول الرأسمالية. إذ يتجاوز الإنفاق على الصحة والإعانات الاجتماعية 715 مليار يورو سنويا. ولا تزال قطاعات أساسية مثل الصحة والتعليم والإعلام والنقل العام تحت الهيمنة الحكومية، فيما يحظى الموظفون الحكوميون بتقديمات أفضل مما لدى القطاع الخاص.

لكن في مقابل هذه المزايا، تعاني فرنسا من الأعراض الجانبية المعتادة للاشتراكية. الرعاية الاجتماعية تعني إنفاقا ضخما، وعجزا ثقيلا، ومديونية عامة تصل إلى 97% من الناتج المحلي الإجمالي، وربما، قطاع عام ينحو نحو الترهل.

زد على ذلك أن منح المزايا للعمال له ثمن اقتصادي. فمعدل البطالة لا يزال ضعف ما هو عليه في ألمانيا المجاورة، حتى بعد انخفاضه الملحوظ العام الماضي. ومعدل إنتاجية الموظف منخفض، والاتحادات العمالية القوية تشكل عامل قلق لدى أرباب العمل يجعلهم مترديين دائما في خلق المزيد من فرص العمل.

أراد ماكرون هز هذا النموذج في العمق. قدم نموذجا جديدا يقوم على ركيزتين: خلق فرص العمل، وإن بمزايا وتقديمات أقل، وضبط الميزانية العامة لخفض العجز واحتواء المديونية.

في الشق الأول، فضّل ماكرون التضحية بالكثير من مزايا العمالة لصالح تشجيع الشركات على الاستثمار وخلق المزيد من فرص العمل، وإن بمزايا أقل. من أجل ذلك، وجه ضربة للقوة التفاوضية لاتحادات العمال، من خلال زيادة مجالات التفاوض على مستوى الشركات.

والأهم أنه أعاد هيكلة منظومة الضرائب بشكل كامل، فخفف من رسوم الاشتراكات الاجتماعية مقابل زيادة ضرائب الدخل، وأنشأ نظاما جديدا لجباية الضرائب من المنبع، وحدد هدفا واضحا لخفض ضريبة الشركات من 33% إلى 25% على مدى فترة ولايته.

وعلى مدى عقود، ظلت #فرنسا تخوض الجدل حول ما يسمى “الضريبة التضامنية على الثروة”، وهي ضريبة كبيرة على الأثرياء أدت إلى تنازل المئات عن جنسياتهم الفرنسية للهرب منها، إلى أن أقدمت الحكومة على إلغائها في سبتمبر من العام الماضي، تنفيذا لتعهدات صريحة من ماكرون خلال حملته الانتخابية. وكانت تلك نقطة ساهمت في تشكيل الصورة النمطية السلبية عنه، بوصفه “رئيس الأثرياء”. لكن منطق ماكرون يقول إن كل السياسات يجب أن تصب في صالح جذب رؤوس الأموال والمستثمرين لخلق فرص العمل.

لا يبدو أن الجمهور فهم ما يقوله الرئيس أو اقتنع به. جاءت الضغوط الشعبية لتدفع ماكرون إلى الاتجاه الآخر. ستؤدي التنازلات إلى تكلفة إضافية تتراوح بين 8 و10 مليارات يورو في ميزانية العام المقبل، وبالتالي فإن عجز الميزانية سيرتفع من 2.8% كان مخططا لها، إلى 3.4%، ليتجاوز مجددا الخط الأحمر الأوروبي. وستعني زيادة الحد الأدنى للأجور تراجعا عما يراه ماكرون ضرورة لتعزيز تنافسية سوق العمل.

ثمة نقاط مركزية كثيرة في برنامج ماكرون لم يتراجع عنها، مثل إلغاء ضريبة الثروة، وإعادة هيكلة ضريبة الدخل. لكن لا بد من انتظار اختبار الشارع، ليتضح ما إذا كانت الضربات التي تلقاها ستتوقف عند هذا الحد.

 

المصدر: – عبادة اللدن