عندما تذكر “الكيماوي” يتبادر إلى ذهن الشعب السوري والعالم أجمع “مجزرة الغوطة الشرقية” والمشاهد التي وثقتها كاميرات الإعلاميين، التي لا يمكن أن تمحى من الأدهان لفظاعتها، لم توفر طفلا ولا امرأة ولا كهل وقضت على عائلات بأكملها معظمهم كانوا نياماً.
محمد سامر سليمان الذي أخفى اسمه الحقيقي على مدى سنوات، عادت له الروح بعدما باتت سوريا حرة، لم يتردد بالعودة إلى مدينته في اليوم التالي لسقوط نظام بشار الأسد، رغم الذكريات المؤلمة التي حُفرت في ذاكرته في ذلك اليوم الذي شارك فيه بدفن العشرات مع أبناء بلدته في مقابر جماعية توزعت على اكثر من منطقة يوم اختنق مئات الأطفال شهد العالم على فظاعتها.
يروي سليمان بداية تفاصيل الحراك في مدينته يوم خرجوا بحراكهم السلمي والاسباب التي دفعت النظام الى ارتكاب هذه المجزرة.
منذ بداية الحراك صمم النظام على منع الحراك في المنطقة التي تبعد عن دمشق حوالي 3 كلم لاسيما من بوابتها زملكة ، مشيرا الى ان بداية الحراك كان في الزبلطاني عام 2011 بتظاهرة سلمية وصلت الى برج 8 آذار، لكن قناصة النظام كانوا على استعداد حيث كانوا منتشرين على اسطح المباني وارتكبوا يومها مجزرة بحق المتظاهرين، ومن استطاع النجاة من الرصاص راح ضحية فتح ريغارات الصرف الصحي، وفقد عدد كبير منهم.
رواية سليمان المؤلمة تحتاج الى حلقات لوصف ما عاشه مع ابناء بلدته، ان على صعيد القصف بالاسلحة الكيماوية او الحصار الذي جعلهم يتقاسمون العلف مع الحيوانات، الى ان خرجوا الى الشمال المحرر عام 2018، وهذا ما جعلهم يصفون بقاؤهم على قيد الحياة بعبارة “خرجنا بسند كفالة” نتيجة رفضهم المصالحة مع النظام.
لن ينسى سليمان من اعتقل من اهل بلدته من 30 موقعاً والذي يقدر الى الآن ب10 آلاف، معظمهم اعتقل ونقل الى مسلخ صيدنايا، قتل العديد منهم وخرج بعضهم يروي ما عاشه في ذلك المسلخ حيث شاهد عملية قتل ابنه في ما عرف ب”المكبس البشري”.
ويضيف سليمان معددا المناطق التي تشكل ريف دمشق من دوما الى حرستا وزملكة، ومحاولة النظام الضغط لوقف التظاهرات من خلال اعتقال المثقفين وأصحاب الرأي لمدة 15 يوم، لكن التظاهرات استمرت على وتيرتها بشكل سلمي الى ان تعرضت زملكة لتفجير بسيارة مفخخة في 29-6 2011 ذهب ضحيتها حوالي 400 شخص، وكان سليمان مشاركا فيها لكنه تمكن من النجاة ، الا ان المشهد الذي عاشه كان مخيفا، فالضحايا انتشلوا من على الاسطح معظمهم احترق، وظن الجميع ان ما حصل نتيجة قصف طيران النظام.
اثر الاحداث الاليمة التي عاشها اهل المدينة بدأ السلاح بالانتشار في المنطقة ، لاسيما بعد الحصار الذي نفذ عليها من جميع المداخل في 21/ اغسطس/ أب، على ايدي عناصر الجيش الفلسطيني المتواجدين في “مخيم الوافدين” والمكون من لواء القدس و”الجبهة الشعبية ” وحركة الجهاد الاسلامي” الإرهابية وفق تعبير سليمان.
لافتا الى المساحة التي تواجد فيها اهل الغوطة والتي لا تتجاوز الـ30 كلم مربع، لكنها شهدت كثافة سكانية كبيرة لاسيما في زملكة بعد انتقال العديد من سكان الشام اليها مما زاد عدد سكانها من 10 الآف الى 190 ألفاً.
مجزرة الغوطة تفاصيل مرعبة
يستذكر سليمان تلك الليلة التي ذهب ضحيتها 1485 شهيد موثقين بالاسم الثلاثي، في حين ان الاعداد الاخرى لم يتمكنوا من إحصائها لعدم امكانية التعرف عليها.
قبل حصول الجريمة الكيماوية استطاع شباب البلدة تنفيذ ما عرف بـ “بمقبرة الدبابات” حيث تمكنوا من تدمير اكثر من 20 دبابة مدرعة. هذه الضربة التي منعت النظام من اقتحام المنطقة دفعته الى الانتقال الى استعمال الاسلحة الكيماوية باطلاق 6 صواريخ اصابت بداية منطقة عين درما ومدخل البلدة، بدأ البعض بالخروج وكانت والدة سليمان وشقيقته واولادها من ضمنهم حيث تمكن من اصطحابهم الى منطقة جسرين التي تبعد حوالي 5 كلم عن المنطقة المستهدفة، الا ان المسار الذي اجبر على سلوكه عبر مزرعة جامعة توفيق كان مخيفا وصادما، فعيناه شهدت على العديد من المصابين الموزعين على جانبي الطريق ينتظرون من يسعفهم، لكن الخوف الاكبر ان يتم دهسهم نتيجة انقطاع الكهرباء عن المنطقة.
يسرد سليمان الخطة التي اعتمدها النظام لناحية اختيار المناطق بعناية، لافتا الى ان منطقة “الطبية” حيث المستشفى الميداني القريبة من منزله لم تستهدف الا بعد نقل المصابين لاسعافهم، وهذا ما تسبب بمجزرة ذهب ضحيتها ما يقارب ال300 شخص من بينهم المسعفين، ومن حاول الخروج الى الاماكن المفتوحة لم ينجُ من الصواريخ التقليدية.
لم يستطع سليمان البقاء مع عائلته، بل عاد الى البلدة للمساعدة، وعلم من احدهم ان والده توفي نتيجة الضربة، وعند معاينته لاحظ انه يحرك اصبعه ، فقام بإنعاشه لكنه بقي فاقدا للوعي لمدة شهرين وهذا الامر حصل مع العديد من ابناء بلدته وحتى الحيوانات والطيور لم تسلم من الكيماوي.
يضيف سليمان ان العديد من المناطق تعرضت لضربات بالاسلحة الكيماوية بعد الغوطة منها خان شيخون عام 2017 ومدينة دوما ب2018 لكن لم يحرك احدهم ساكنا لوقف هذه المجازر، رغم ان الشواهد عليها عديدة لاسيما المقابر الجماعية التي حفرت لدفن الضحايا، اضف على ذلك منع الاهالي من الاقتراب منها، واعتقال الصحافيين والاطباء لاخفاء ما يرتبط بهذه الجريمة لمنعهم من الادلاء بشهادتهم امام المنظمات الدولية.
لم يتوقف سليمان عن النضال فهو يحاول مع العديد من اهل بلدته جمع الادلة لاثبات مسؤولية النظام عن هذه الجريمة التي يتحملها مع النظام الايراني وروسيا، الذين سمحوا له باستخدام هذه الاسلحة، ولذا فهم يريدون تعويضات على هذه الجرائم، ولا يحق لطهران طلب تعويضات على قتل الشعب السوري الذي لن يهدأ حتى تتم محاسبة من أوغل في دمه.