خيار النخبة الشيعية
كانت النخبة السياسية الشيعية في بغداد حينذاك تحاول، وبتشجيع إيراني، الإجابة عن سؤال يتعلق “بمدى الحاجة إلى قوة عقائدية تساعد المذهب الإثني عشري في العراق على الصمود وسط جماعات سنية ممثل بتنظيم القاعدة والجيش الإسلامي في العراق وكتائب ثورة العشرين، وغيرها من التنظيمات السنية الراديكالية”، التي كانت تستهدف الوجود الشيعي بوصفها “شريكاً سياسياً للولايات المتحدة المحتلة، التي أطاحت بنظام صدام حسين قبل أعوام”.
القوة الواعية
لكن هذه المجموعات، كانت أقرب إلى العصابات منها إلى الميليشيات المنظمة، وذلك بسبب طبيعة نشأتها وظروف تشكيلها واعتمادها دوماً على قيادة كاريزمية تدفعها إلى تخطي الحدود، لذلك طرحت النخبة الشيعية في بغداد خيار تأسيس “قوة شيعية واعية” في العراق، على غرار “حزب الله” في لبنان، بدلاً من الاعتماد على ميليشيات مندفعة بحماسة طائفية صوب أهداف لا تتسق ومشروع “الجمهورية الإسلامية” في إيران.
لم يكن هذا الخيار يعني في أي حال من الأحوال الاستغناء عن أي من الأذرع الإيرانية في العراق، لذلك سارت عملية تأسيس القوة الجديدة جنباً إلى جنب مع مشروع لتعزيز “نفوذ الميليشيات المنشقة عن الصدر”.
مفوض الدعوة
وفي عام 2007، كان كل شيء جاهزاً لبدء استنساخ “حزب الله” اللبناني في العراق، إذ أوكلت هذه المهمة إلى جمال جعفر آل إبراهيم، المعروف بـ “أبي مهدي المهندس”، وهو مفوض “حزب الدعوة الإسلامية” الذي كلفته إيران بتنفيذ هجمات داخل الخليج خلال ثمانينات القرن الماضي.
هل ينتظر “حزب الله” المعادلة في العراق لحسم موقفه في بيروت؟
وبين 1983 و1985، ذاعت شهرة المهندس في المنطقة، لأن اسمه قفز إلى لائحة أشد المطلوبين الدوليين، لضلوعه في هجمات ضد منشآت دبلوماسية في الكويت، وتخطيطه لمحاولة اغتيال أمير البلاد آنذاك.
قيادة مجهولة
ومع أن المهندس اختار أكفأ المقاتلين للانخراط في النسخة العراقية من “حزب الله” اللبناني، إلا أنه كان حذراً في تسمية هيكلية قيادية لهذا الكيان القتالي، خشية تعرضه للانهيار في حال استهدافها. لذلك، بقيت قيادة “حزب الله العراقي”، مجهولة. ولتمييزه عن أصله في لبنان، أضيف مصطلح كتائب في مقدمة الإسم.
ولا يخفي المهندس فخره بالعمل تحت يد سليماني، لكن الغريب أن سليماني يقول إنه يتشرف بكونه جندياً تحت إمرة المهندس.
تماهي المهندس وسليماني
حالة التماهي بين هذين الرجلين كانت واضحة بشدة في مسألة قيادة كتائب “حزب الله” العراق، إذ تتنقل القيادة المباشرة بينهما، وفقاً لمصادر مطلعة، بحسب الحاجة والظروف، لكن الأهم هو أن هذه القوة باتت مرتبطة بـ”الحرس الثوري الإيراني” على المستويات كافة، بدءاً من التدريب والتسليح والتجنيد وانتهاء باختيار خريطة الأهداف.
وعندما تأسس “الحشد الشعبي” في العراق حجزت كتائب “حزب الله” موقعاً داخله، وعندما تولى أبو مهدي المهندس منصب نائب رئيس هيئة الحشد رسمياً، قفزت الكتائب إلى “المقدمة في قائمة الميليشيات العراقية الأكثر قوة وتنظيماً”.
ضد الولايات المتحدة
وادخرت كتائب “حزب الله” معظم أنشطتها في العراق لتوجهها إلى الوجود الأميركي في هذا البلد. ونظراً للموثوقية العالية التي يتمتع بها مقاتلوها لدى “الحرس الثوري الإيراني” فقد حصلوا على الأسلحة الأحدث والصواريخ الأكثر دقة.
وفي أغسطس (آب) وسبتمبر (أيلول)، تعرضت مخازن أسلحة تابعة للحشد إلى غارات اتُهمت إسرائيل بتنفيذها، وما كان من المهندس إلا أن أعلن عن تفاصيل مؤامرة دولية شاركت فيها تل أبيب وواشنطن، وقال حينها إن “العاصمتين تواطأتا لإدخال طائرات مسيرة إلى العراق عبر أذربيجان، استُخدمت في ضرب مقرات الحشد لاحقاً”.
وبعد أسابيع، شنت كتائب “حزب الله” سلسلة هجمات على السفارة الأميركية في بغداد ومعسكرات تشغلها قوات أميركية قرب مدينة الموصل وفي محافظة صلاح الدين، تسببت في جرح جنود عراقيين.
قمع الاحتجاجات
وفي مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تدخلت كتائب “حزب الله” للمرة الأولى في الشأن السياسي الداخلي، عندما تحولت إلى رأس الحربة في القوات التي قمعت حركة الاحتجاج الأوسع التي تشهدها البلاد.
تنقلت الاتهامات لتلك الكتائب بين المحافظات العراقية المحتجة، وظهر اسمها إلى جانب كل عملية قمع واسعة، ما وضعها في واجهة الأحداث، لاسيما مع تواتر الأنباء عن أن أبي مهدي المهندس وقاسم سليماني كانا على رأس غرفة عمليات التعامل مع الاحتجاجات.
تقنيات عسكرية متطورة
في الثالث من ديسمبر (كانون الأول) 2019، بدا أن كتائب “حزب الله” تريد أن تخبر الولايات المتحدة أمراً، إذ أرسلت دفعة صواريخ على موقع صغير جداً قرب مطار بغداد الدولي يضم جنوداً أجانب، متسببة بجرح عدد منهم.
هذا الهجوم مثّل دليلاً جديداً على امتلاك الكتائب تقنيات عسكرية متطورة، لأن الصواريخ التي استُخدمت في قصف المنشأة العسكرية قرب مطار بغداد كانت مزوّدة بأجهزة استدلال.
هجوم للتنفيس
وعندما ضاق الخناق على القوى السياسية الموالية لإيران في بغداد خلال مفاوضات اختيار رئيس وزراء جديد، خلفاً للمستقيل عادل عبد المهدي، وجه “حزب الله” ضربة لمعسكر في كركوك يوم الـ27 من ديسمبر، متسبباً بمقتل مواطن أميركي.
ووُصفت هذه العملية بأنها “تنفيس” عن احتقان سياسي يهدد المصالح الإيرانية في بغداد.
وبدا أن الخطة نجحت، إذ هاجم الأميركيون بعد يومين خمسة مواقع تابعة لكتائب “حزب الله” في العراق وسوريا، ما أدى إلى مقتل وجرح العشرات.
بهذا التطور، تكون كتائب “حزب الله” هي العدو الأول للولايات المتحدة في لائحة الميليشيات العراقية الموالية لإيران، وربما تستمر مناوشاتها مع الجيش الأميركي، ما دامت تحظى بدعم “الحرس الثوري الإيراني”.