الخميس 16 شوال 1445 ﻫ - 25 أبريل 2024 |

برامج

شاهد آخر حلقاتنا اونلاين

الحريري وبيئته "الحزينة".. من الاعتزال الحكومي إلى العزل السياسي

لا يزال سعد الحريري بعيداً عن السياسة. ولبعده وجهان. البعد المادي والمتعلق بغيابه عن لبنان وبيئته وجمهوره ومؤيديه وتياره وعن متابعة شؤونه الداخلية أو “المعارضتية”.

 

والبعد العملي، وهو نتيجة للبعد الأول، لناحية اقتصار السياسة لدى سعد الحريري بنقطتين، إما أن يكون رئيساً للحكومة (أو ساعياً إليها)، أو أن يكون في غمار الانتخابات النيابية. ومن يقارب السياسة بهذا المنظار، يبقى فعلياً بعيداً عنها. السياسة ليست موسمية، ولا تخضع لتوقيته. السياسي مبادر باستمرار في الفعل وفي التوقيت.

شبح 2011

في عزّ التسوية الرئاسية، وتربّعه على عرش الحكومة، لم يكن راغباً في السياسة. قالها أكثر من مرّة أنه غير مبال بها، يصب اهتمامه على الاقتصاد. وبعد انفراط عقد الحكومة و”التسوية” تحمّس بداية لخوض غمار المعارضة، إلا أنه تكاسل وسئم سريعاً. زهوه بجمهوره في ذكرى اغتيال والده لم يطل كثيراً. هذا الجمهور الذي كان خائفاً من تكرار تجربة العام 2011، بعد إسقاط حكومته وتشكيل حكومة نجيب ميقاتي. حينها غادر ولم يعد، وصار الجمهور تائهاً، والكتلة النيابية الأكبر آنذاك تجاذبتها الصراعات والطموحات الشخصية، فضرب الترهل كل ما يرتبط بتيار المستقبل.

الخوف من شبح تلك المرحلة بدأ يتسلل اليوم إلى نفوس المريدين. وعدهم بأنه لن يغادر، وسيبقى إلى جانبهم، فاتحاً دارته أمامهم عندما يريدون، مصغياً إليهم، قريباً منهم، سميعاً لشجونهم، لكنه غاب. تفشي وباء كورونا قد يخدمه في تبرير غيابه، وفي عدم استقبال الجماهير وعقد الاجتماعات واللقاءات. الفيروس عطّل العالم وشلّ المؤسسات، وأغلق المطارات. كان مناصروه يريدونه بينهم في أحلك ظروفهم، في حرب وجودية يخوضها الجميع، ويزايد فيها الجميع، كل منهم يعمل حرصاً على بيئته ومناطق نفوذه السياسي. وحده تيار المستقبل غائب، التيار الذي كان أول من يحضر في الساحات. سابقاً وراهناً، لا أحد يحل مكان الحريري في التيار وفي بيئته. لا أحد يطمئن خوالج جمهوره سواه.

العين بصيرة واليد قصيرة

أحزاب وتيارات سياسية كثيرة، سارعت إلى “الاستثمار” بالوباء، لتعزيز شعبيتها التي أصيبت في ثورة 17 تشرين، وتكابد في مقارعة “الوباء” لتحسين صورة تهشّمت. ولا يزال المستقبل غائباً. قد تكون العين بصيرة واليد قصيرة، ولا تمسك بأي حيلة. لكن وجود الحريري وحضوره قد يكون كافياً لبث روح المبادرة. تأخر المستقبل عن الانخراط في المساعدة وتنظيم المبادرات الأهلية وتقديم التبرعات، إلى أن اختار الحريري لها أن تبدأ من عكار. تلك المحافظة التي تشكّل له خزاناً بشرياً وسياسياً، ويعرف أنه ظلمها كثيراً في تعطيل أغلبية مشاريعها، لصالح أقضية أخرى، كرمى لعيون “التسوية”.

يوم غادر “المستقبليون” بيت الوسط في 14 شباط، إثر خطاب الحريري، رافقت معظمهم ذكريات ما بين العام 1998 وانتخابات العام 2000. آمال الكثير منهم تعلّقت على أن يستعيد سعد تجربة رفيق، يبقى في البلد، إلى جانبهم على “المرّة قبل الحلوة”، ويحضر معهم لاستحقاق مفصلي. بعد خروج رفيق الحريري من السلطة مرغماً وبفعل الاستهداف المستمر له، حقق انتصاراً كاسحاً في الانتخابات بعد سنتين. الظروف ملائمة جداً ليجدد الحريري دورته الدموية السياسية، ويضخ دماءً جديدة في تياره وبيئته. يخشى المناصرون أن يخذلهم، ويستسلم لليأس، منتظراً فرجاً من معجزة ما، أو من تنازلات يتكبد المزيد منها، ليكرر تجربة العام 2016. هنا ثمة سؤال أساسي يُطرح، هل لا يزال لديه شيء ليقدمه ويتنازل عنه؟

الثمن الباهظ

مشكلة “البيئة السنّية” مع سعد، أنه عندما يكون في السلطة لا يكون معهم كما يشتهون ويتمنون، فيتعالى على شؤونهم لصالح الآخرين، تحت عنوان “الدولة والوحدة الوطنية” وتحاشي التوترات والاشتباكات السياسية. اشتباكات لطالما هدد بخوضها وبالقدرة على فتحها، لكنه دوماً يجنح إلى تجنبها. وعندما يكون خارج السلطة، لا يمكنهم استعادته وفق ما يطمحون ويرسمون ويريدون. يبتعد عنهم أكثر. علماً أن المعارضة يجب أن تقرّب الزعيم من جمهوره. لكن سعد الحريري، حتى عندما يعلن استعداده للتحضير لبرنامج معارض، يغيب ولا يخوض المواجهة.

جلّ ما يقوم به، بضعة تغريدات يشير فيها إلى وجوده، بضع كلمات يتحدث فيها عن ما كان يتفوه به معارضوه أيام التسويات وكان يخوّنهم بسببها، مثلما انتقد “المتحاملين” عليه عندما تحدثوا عن الإحباط وعن الصراع على الصلاحيات وتنازله عنها، ليعود بنفسه ويتحدث عن رئيس الظلّ، وتعاطيه مع رئيسين طيلة ثلاث سنوات. فأدان بنفسه صمته وقبوله البقاء. وصل بؤس الحال لأن يخرج نائب من الذين أوصل الحريري زعيمهم إلى الرئاسة، متوجهاً إليه بالقول: “روح العب”.

عبارة تختصر تلك اللعبة الخطرة، التي ركبها الحريري مع جبران باسيل، وعادا واختلفا عليها. ثمنها سيكون غالياً جداً، ليس على سعد الحريري فقط، بل على لبنان كله بتوازناته وصيغته السياسية. والخاسر الأكبر فيها بيئة سعد الحريري. الثمن سيكون لأمد طويل، ومسؤوليته سيتحملها الحريري.