تدحرجت كرة النار بسرعة لتطال نصف مساحة الأراضي اللبنانية، وفيما العدوان الإسرائيلي إلى اتساع، وأعداد الشهداء والجرحى إلى ارتفاع، وفيما حجم الدمار يدمي القلوب ويكاد يستنسخ تجربة غزة ويضع آلاف النازحين من الجنوب والبقاع في العراء على عتبة الشتاء، ويهدّد بإشكالات في المناطق التي نزحوا إليها ولاسيما مع بعض مَن يرفعون شعارات حزبية تستفز المكوّنات اللبنانية الأخرى، تخطى العدو الإسرائيلي نظرية «التصعيد من أجل خفض التصعيد» وسعى لتغيير قواعد اللعبة وضرب قدرات «حزب الله» العسكرية واللوجستية واغتيال كبار قادته كما حصل في الغارة غير المسبوقة على الضاحية الجنوبية على مقر القيادة المركزية للحزب لاغتيال الأمين العام السيد حسن نصرالله. ووصفت هذا الغارة التي أسفرت عن استشهاد نصرالله بـ «الزلزالية» لأنها استهدفت رمز المقاومة ولأنها تربط مصير منطقة الشرق الأوسط بما سيلي اغتيال نصرالله الذي تحوّل إلى زعيم كبير على مستوى لبنان ودول محور الممانعة، بعدما تبوّأ مسؤولية القيادة في «الحزب» منذ عام 1992 وشهد لبنان والمنطقة في عهده تحولات إرتبطت بقيادته بدءاً بالتحرير في عام 2000 مروراً بحرب تموز 2006 واجتياح بيروت في 7 أيار وصولاً إلى القتال في سوريا دفاعاً عن نظام الرئيس بشار الأسد وفرض الهيمنة على القرار السياسي في لبنان.
وقد شكّلت الضربات الإسرائيلية المتسارعة ولاسيما الليلة العنيفة التي شهدتها الضاحية الجنوبية وتدمير جزء هام من البنية العسكرية مفاجأة صادمة حتى لكوادر «حزب الله» والبيئة الحاضنة، وبدت إسرائيل التي تجاوزت الخطوط الحمراء كأنها تدفع المنطقة إلى تفجير كبير أو حرب شاملة في حال قررت ايران وأذرعتها في اليمن والعراق تطبيق نظرية «وحدة الساحات» فعلاً لا قولاً. وجاءت هذه الضربات للضاحية بعدما عمدت الغارات في الأيام القليلة الماضية إلى محاولة قطع طرق إمداد «الحزب» بالأسلحة من خلال استهداف المعابر السورية اللبنانية غير الشرعية التي شكّلت منذ عام 2006 شرياناً أساسياً لترسانة الحزب الصاروخية. أما موضوع المنطقة العازلة فتبدو خياراً إسرائيلياً جدياً في حال عدم قبول «حزب الله» بالانسحاب إلى شمال نهر الليطاني، ولم تعد ثمة شكوك أن رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو يدرس موضوع التوغل البري في حال عدم الاستجابة لمثل هذا الشرط الذي يتيح لمستوطني الشمال العودة إلى مساكنهم، وهو ما يضع الجنوب ومعه لبنان في نفق أسود.
وإذا كان السيد حسن نصرالله اعتبر في آخر اطلالة إعلامية غداة تفجيرات «البيجر» واللاسلكي أي دخول بري إلى لبنان فرصة تاريخية لمواجهة الاحتلال، فإن أوساطاً قريبة من «الحزب» تؤكد اقتناعها بما أعلنه الأمين العام وتعلّق على احتمال الدخول البري الإسرائيلي بقولها «لن يجرؤ العدو على التقدم، وهذا التهويل لن ينال من عزيمة المقاومين وهو بمثابة هدف معنوي لن يلبث العدو أن يخسره في الميدان» سائلة «هل هذا الدخول لن تكون له كلفة كبيرة وكم حجمها وكم باستطاعة العدو أن يبقى على أرض الجنوب؟ وهل هذا التوغل سيعيد مستوطني الشمال؟». وتبدي الأوساط ثقتها «بقدرة مقاتلي حزب الله وجهوزيتهم العالية على المواجهة رغم الفاجعة الكبيرة نظراً لمعرفتهم بجغرافية الأرض وخبرتهم التي اكتسبوها في حرب تموز من جهة وحرب سوريا من جهة أخرى إضافة إلى أن أي توغل بري سيحيّد سلاح الجو الإسرائيلي عن التدخل المباشر وسيتيح لعناصر المقاومة التصدي للدبابات والمدرعات الإسرائيلية بصواريخ كورنيت وغيرها من مسيّرات».
إلا أن خصوم «حزب الله» يقللون من قدرة الحزب على المواجهة، ويقولون «إن الحرب أسقطت حجج حزب الله حول قوة الردع وتوازن الرعب دفعة واحدة، وبالتالي سقطت حجته بأن السلاح هو لحماية لبنان طالما أنه لم يستطع حماية أمينه العام وقيادته وعناصره بالذات في قلب الضاحية الجنوبية وفي مختلف المناطق، في وقت يكفي التوقف أمام أرتال السيارات التي تراصفت على طول الأوتوستراد الساحلي من صور إلى صيدا فخلدة وبيروت وامام افتراش أهالي الضاحية الأرصفة في عين المريسة وساحة الشهداء لتظهير المشهد المؤلم للنازحين وكيفية تجرّع أهالي الجنوب والضاحية الكأس المرّ لتورط حزب الله في هذه الحرب التي بدأها تحت عنوان إسناد غزة من دون الوقوف على رأي باقي اللبنانيين وحوّلها قبل أيام تحت عنوان الدفاع عن لبنان وشعبه».
ويضيف خصوم «الحزب» رداً على استمرار قيادات حزبية ومحللين إعلاميين بالاعتداد بقوة المقاومة وأنها لم تقل كلمتها بعد «لقد خسر حزب الله هذه الحرب بسبب مبالغته الكبيرة في الاعتداد بنفسه وبصواريخه والـ 100 ألف مقاتل وتهديداته التي بلغت حد التلويح بالدخول إلى الجليل والحديث عن زوال إسرائيل إسوة بما كان يعلنه المرشد الإيراني علي خامنئي قبل أن تدرك إيران خطر دخولها في أي حرب ويبدأ المرشد بالحديث عن التراجع التكتيكي أمام العدو ويبدأ الرئيس الإيراني بوصف الأميركيين بالأخوة، ما دفع كثيرين بناء على هذه المواقف المفاجئة إلى طرح علامات الاستفهام حول ما إذا كانت طهران تخلّت عن حزب الله وباتت تفاوض الولايات المتحدة الأميركية على حسابه».
أكثر من ذلك، ربط البعض بين عدم استخدام «حزب الله» صواريخه الدقيقة أو صواريخه البالستية بممانعة إيرانية لغاية الآن خشية أن تستغل إسرائيل هذا الأمر لتوجيه ضرباتها إلى طهران ولاسيما أن بنيامين نتنياهو أعاد توجيه السهام في كلمته أمام الأمم المتحدة في نيويورك نحو إيران واتهمها بتعطيل مساعي السلام والتطبيع. واللافت أن نتنياهو لم يأت في خطابه على ذكر الاقتراح الأميركي الفرنسي بالتنسيق مع دول عربية وغربية لوقف إطلاق النار لمدة 21 يوماً تمهيداً للافساح في المجال أمام المفاوضات حول تطبيق القرار 1701.
وجرى في خلال «الاقتراح النداء» الربط بين إنهاء القتال بين جبهتي غزة ولبنان في محاولة لحفظ ماء وجه حزب الله الذي لطالما ربط أمينه العام قبل اغتياله وقف جبهة الإسناد من لبنان بتوقف العدوان الإسرائيلي على غزة. ويرجّح أن يكون رئيس مجلس النواب نبيه بري هو بالذات وراء هذا الربط في النداء ووراء اقتراح مهلة الأسابيع للبدء بالتفاوض انطلاقاً مما سبق أن حمله المبعوث الأميركي آموس هوكستين من طرح لترسيم الحدود البرية مقابل إبعاد عناصر «الحزب» عن الحدود مسافة ما بين 8 إلى 10 كلم.
ومن المعروف تميّز الرئيس بري بالدهاء وكيفية إخراج بعض التسويات، غير أن إسرائيل رفضت الهدنة وأعلنت الاستمرار في الحرب، معتبرة أن هذه المهلة ستتيح لـ «حزب الله» شراء الوقت وإعادة ترتيب وضعيته العسكرية. وعمدت تل أبيب إلى توجيه ضربات قاسية إلى الجسم القيادي في «حزب الله» وتقطيع أذرعه العسكرية إضافة إلى عمليات نوعية لضرب بنية «الحزب» ودفعه إلى فقدان التوازن والتراجع. وهذا ما أدى إلى فشل المسعى الأميركي الفرنسي وفشل مسعى الرئيس بري لإنقاذ «الحزب» مع العلم أن البعض يرى في أي موافقة لـ «حزب الله» على التسوية قبولاً بالتطبيق الفعلي للقرار 1701 وبالتراجع إلى ما وراء الليطاني واعترافاً ضمنياً بالخسارة ولاسيما بعدما كان نصرالله لفت بتهكم إلى أنه «من الأسهل نقل نهر الليطاني إلى الجنوب على أن يتراجع حزب الله إلى شمال النهر».
وفي ضوء ما آلت إليه النتائج الأولية للحرب الإسرائيلية على «حزب الله» وعلى الرغم من مواصلة «الحزب» إطلاق الصواريخ الثقيلة على صفد ومحيط حيفا وعكا وتل أبيب، ثمة مَن اعتبر أن «الحزب» فوّت على نفسه فرصة القبول منذ أشهر طويلة بما طرحه هوكشتاين على الرئيس بري من تسوية سياسية للنقاط البرية العالقة على الحدود الجنوبية بدءاً من نقطة الـ B1 وهو ما كان رأى فيه نصرالله بالذات في شهر كانون الثاني «فرصة حقيقية لتحرير كل شبر من أرضنا». ولو سار نصرالله بهذا الطرح مقابل ترتيبات معينة في الجنوب أو لو التزم بالقرار 1701 منذ عام 2006 لكان وفّر على لبنان وعلى نفسه وعلى الطائفة الشيعية هذا القتل والدمار والتهجير. لكن زعيم «الحزب» اعتقد أن ورقة مستوطني الشمال ستمنع نتنياهو من توسيع الحرب، مهدداً «بأن التوسيع سيؤدي إلى مزيد من التهجير». وأصرّ على ربط وقف الحرب على الجبهة الجنوبية بتوقف العدوان الإسرائيلي على غزة فدفع الثمن.
يبقى أن أحد الخبراء العسكريين قال في تحليل للوضع الميداني «إن الحرب تنتهي إما بتسوية أو بحسم عسكري» فهل بات الحسم العسكري هو الخيار الأوفر بعد رفض التسوية؟ أو أن الحسم ما زال مستبعداً ما يعني أن الحرب طويلة؟ وأي تأثير لاستشهاد نصرالله على أحد الخيارين؟