الخميس 29 شوال 1445 ﻫ - 9 مايو 2024 |

برامج

شاهد آخر حلقاتنا اونلاين

التداخل في الحدود بين سوريا ولبنان: وادي نهر الحاصباني نموذجاً

يحلو لبعض السياسيين اللبنانين إشهار الدعوة من وقت إلى أخر في وجه السوريين لـ «ترسيم» أو لـ «تحديد/تثبيت» الحدود بين سوريا ولبنان.

وفي مفهومهم أن «الدولة السورية العميقة» تريد ابتلاع لبنان. وأنه من أسهل السبل إلى ذلك إلغاء الحدود أو إسقاطها.

ولهذا فإن «الترسيم» القادم بطلب من قرار مجلس الأمن 1701 سيؤدّي إلى تأمين سيادة واستقلال لبنان من الاطماع المفترضة لجارته الشرقية، عدا عن ضرورة إجرائها لضبط معابر التهريب غير الشرعية. هذه هي وجهة نظر هؤلاء السياسيين اللبنانيين «الإستقلاليين» لجهة ترسيم الحدود وإلحاحهم عليها.

ولكن المسألة ليست بهذه البساطة التي يفترضونها.

فعلى سبيل الاستطراد، فإن رسم الحدود على الخرائط الورقية هو المتعارف عليه بـ «الترسيم». ويستتبع ذلك موافقة الدولتين المعنيتين على هذا الترسيم عن طريق اعتماد خريطة موحدة أو متطابقة بين الجانبين توصلاً إلى معاهدة أو إتفاق حدودي. ثم يتم تسجيل هذا الاتفاق لدى منظمة الأمم المتحدة من أجل اصباغ الشرعية المطلوبة على هذه الحدود «المرسمة على الخرائط الورقية». ويستتبع ذلك إعتماد هذه الحدود بالوسائل الدستورية والقانونية لتصبح نافذة على الصعيد السياسي الداخلي. أما «التحديد» أو «التثبيت»، فتعني أن تقوم السلطات المختصة بترجمة هذا الترسيم عملياً وإعطائه صيغة تنفيذية عن طريق وضع العلامات البارزة أو الإشارات أو الموانع على الأرض.

فبالنسبة إلى الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، فإن «التثبيت» كان علامة الموقف اللبناني الفارقة بعد إنسحاب إسرائيل عام 2000، وعودة إنسحابها بعد حرب تموز 2006. فإسرائيل كانت تريد فتح مفاوضات لإعادة «ترسيم» الحدود الجنوبية وإجراء تعديلات عليها لصالحها وتخطيط هذه الحدود على خرائط مستحدثة. أما لبنان فقد رفض «الترسيم»، وأصرّ على «تثبيت» الحدود بموجب الخرائط المرفقة بالاتفاقية الحدودية المعقودة بين بريطانيا وفرنسا في 1923 (المعروفة بإتفاقية نيوكومب-بوليه). وكان المطلوب لبنانياً وقتذاك مطابقة خريطة نيوكومب-بوليه على الخرائط الحديثة المتوفرة والمتداولة. والاتفاقية كان قد سبق تسجيلها في عصبة الأمم في العام 1923، فأصبحت بالتالي إتفاقية دولية معترف بها قابلة للتنفيذ.

وكان للبنان في العامين 2000 و2006 «تثبيت» الحدود كما أراد. وذلك من دون الدخول في مفاوضات لا طائلة تحتها مع العدو الإسرائيلي. ولم يحصل وقتذاك إعادة «الترسيم» التي أرادته إسرائيل (وللمفارقة المضحكة ولسخرية الأقدار، أن لبنان اليوم يطالب بوساطة الأمم المتحدة والولايات المتحدة لأجل «إعادة» ترسيم الحدود البحرية لاستدراك الخطأ الذي قامت به الحكومة اللبنانية عام 2008 عن طريق تقديم خرائط خطأ تجعل نهاية البلوك رقم 8 عند النقطة البحرية رقم 1 مع قبرص بدلاً من أن تكون النقطة البحرية 23. وهذا أدّى بإسرائيل لكي تغتنم الفرصة وتدَعي ملكيتها لمثلث بحري تبلغ مساحته 860 كلم². والشكر موصول للمسؤولين اللبنانيين على ثقتهم العمياء والمفرطة بالمراجع الدولية التي استدرجتهم لتقديم هذه الخرائط قبل دراستها بشكل وافٍ).

أما مسألة الحدود بين سوريا ولبنان، فقضيتها تختلف تماماً عن مسألة الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة. فهي تحتاج من الناحية التقنية إلى عمليتين منفصلتين: أي «الترسيم» و»التحديد»…وليس «التثبيت». إذ لا توجد خرائط «موحّدة» معترف بها بين لبنان وسوريا. فالحدود الشرقية والشمالية للبنان والتي تنطلق من محيط نبع بانياس إلى الجديدة في أقصى الشمال… هي من رسم ضباط وخبراء المساحة التابعين لجيش الشرق الفرنسي. وهؤلاء الضباط كانوا يأخذون تعليماتهم في النهاية من الحكومة الفرنسية في باريس. وهم لم يكونوا بحاجة إلى التفاوض مع السلطات المحلية في بيروت ودمشق. ومما لا شك فيه بأن جيش الشرق الفرنسي قد استعان عند المسح الخرائطي في تلك الفترة بالقوى المحلية والعسكرية (مخاتير البلدات والسرايا اللبنانية والسورية المرتبطة بالجيش الفرنسي). ولكن لم تظهر حتى الآن أية مذكرات أو وثائق سورية أو لبنانية حول من قام بمساعدة ضباط المسح الفرنسيين.

وقد كان من الواجب على الفرنسيين بعد الإنتهاء من عملية ترسيم الحدود السورية – اللبنانية على الخرائط الورقية في أوائل الثلاثينات، أن يحيلوها إلى عصبة الأمم (مثلما فعلوا مع اتفاقية نيوكومب-بوليه). خصوصاً وأن تسليم هذه الخرائط كانت إحدى موجبات النظام الأساسي للإنتداب الفرنسي المسجل لدى عصبة الأمم في العام 1934.

لكن فرنسا لم تسلّم خرائطها المتعلقة بالحدود بين سوريا ولبنان إلى العصبة. بل إن الخرائط الفرنسية للحدود اللبنانية – السورية كانت في الأصل عرضة للتبديل والتغيير بمرور الزمن. وهذا يعني أنها لم تكن حاسمة ونهائية (على سبيل المثال الخريطة الفرنسية الصادرة عام 1930 مقياس 1: 50،000 تضع بلدة الغجر داخل الأراضي السورية. أما الخريطة عينها الصادرة في نسختها عام 1944، فتضع البلدة داخل الأراضي اللبنانية).

والخرائط الرسمية الوحيدة التي سلّمها الفرنسيون إلى العصبة هي تلك المتعلقة بالحدود الشرقية والجنوبية لسوريا. فقد حصل خلاف بريطاني – فرنسي حول الحدود المرسومة بموجب اتفاقية سايكس-بيكو السرية. فلجأت الدولتان إلى عصبة الأمم في العام 1931 وطالبتا بالتحكيم في رسم هذه الحدود الشرقية والجنوبية التي تفصل سوريا عن العراق والأردن. وبالفعل صدر قرار العصبة في هذا الشأن في أواخر العام 1932.

ثم أنه توجد أسباب كثيرة ومتشعبة لماذا لم تقم فرنسا بتسليم خرائط ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان إلى العصبة. ومن هذه الأسباب مقاومة اللبنانيين والسوريين الوطنية للإنتداب مما أوجد حالات طويلة من إنعدام الأمن الوطني (الثورة السورية الكبرى 1926 على سبيل المثال). وكذلك عدم إستقرار رأي الفرنسيين أنفسهم حول التقسيمات والدول التي سيتألف منها لبنان وسوريا (مثلاً هل يتم تقسيم سوريا إلى 5 دويلات: دمشق، وجبل الدروز، وحلب، وحمص، وبلاد العلويين؟ هل يتم تسليم لواء الإسكندرونة إلى تركيا؟ هل تقتطع بعض الأقضية اللبنانية؟….إلخ). ثم أن فرنسا لم ترَ نفسها على الصعيد المعنوي ملزمة بتسليم الخرائط إلى عصبة الأمم. فالمنظمة لم تكن تحظى بهذه المكانة الدولية التي تحظى بها الأمم المتحدة اليوم. فقد فشلت العصبة فشلاً ذريعاً في لجم التطلعات الإستعمارية لدول المحور (ألمانيا، إيطاليا، واليابان) مما أسقط هيبتها وعرضها للكثير من الانتقادات على الصعيد الدولي.

وبالعودة إلى مسألة ترسيم الحدود اللبنانية – السورية بموجب قرار مجلس الأمن 1701، فإن جلّ ما لدينا هو الخرائط الورقية التي خطّتها سلطات الانتداب الفرنسية على قياسات مختلفة (1:50،000 أو 100،000، أو 250،000… إلخ). وقد ورثت السلطتان اللبنانية والسورية هذه الخرائط بعد الاستقلال عام 1943. وكان مستودعها الأساسي المكتب الجغرافي التابع لجيش الشرق الفرنسي ومقرّه الرئيسي دمشق (مع وجود فرع للمكتب في المندوبية الفرنسية في بيروت). وعليه، فإنه من غير المعروف إذا كانت السلطات الفرنسية قد خلّفت وراءها بعد إنسحابها العسكري عام 1944 الوثائق والمستندات المتعلقة بترسيم الحدود بين سوريا ولبنان خلال فترة 1920-1930. أو أنها، خلاف ذلك، قامت بسحبها من المكتب المذكور وأودعتها في مكان آمن. خصوصاً وأن باريس كانت لا تزال تحت الإحتلال الألماني. وحتى ولو تم الافتراض بأن دمشق ما تزال تحتفظ بهذه الخرائط والوثائق ولا تريد الإفراج عنها، فإن الدكتور عصام خليفة قد نشر الكثير منها المحفوظة نسخاً عنها في الأرشيف الفرنسي في مدينة نانتس. وهذه الوثائق والخرائط التي نشرها د. خليفة ساهمت كثيراً في توكيد لبنانية مزارع شبعا… ولكنها غير كافية على صعيد ترسيم كامل الحدود بين لبنان وسوريا.

وبعيد الإستقلال، قامت السلطتان السورية واللبنانية بـ «تعريب» هذه الخرائط الفرنسية وإعادة نقلها ورسمها كما هي… ولكن ليس قبل أن تقوم بالزيادة عليها أو بالنقصان. والسبب في ذلك أنه قد برزت مسائل التداخل الحدودي بين القرى اللبنانية والسورية عندما بذلت المحاولات للـ «تثبيت» والـ «تحديد» على الحدود. وكانت لمنطقة مزارع شبعا حصتها من الخلافات سواءً على صعيد الترسيم في الخرائط (حيث تم اكتشاف التباينات الموجودة في الخرائط الفرنسية) وبين محاولات لبسط السيادة على تلك المنطقة الاستراتيجية الحساسة. ولإعطاء مثال على ذلك هو هذه الخريطة المرفقة بتقرير صادر عن السفارة الأميركية في بيروت في 22/4/1963 والتي نشرها الخبير الجغرافي الإسرائيلي آشر كاوفمان في كتابه مؤخراً (الباحثون الإسرائيليون لديهم قدرة أكبر للولوج السهل في الأرشيف الرسمي للدول الكبرى). ففي إطار محاولات منع إسرائيل تحويل روافد نهر الأردن لري صحراء النقب، قامت السلطات السورية بحفر قناة شمال نبع الوزاني لجرف المياه إلى سهل بلدة النخيلة. وقد وقعت تباينات ونزاعات بين سوريا ولبنان في العام 1963 حول الحدود في هذه المنطقة كما تبيّنها الخريطة رقم 1 (تم إضافة الألوان على الخريطة التي هي بالأبيض والأسود في الأصل من أجل تسهيل فهمها على القارئ):

فمنشآءات قناة التحويل المحفورة من مصب نهر الحاصباني ونبع الوزاني شمالي بلدة الغجر تتمثل في الخريطة بالدوائر الصغيرة المتسلسلة. والمربع الأخضر هو المنطقة المتنازع عليها بين لبنان وسوريا غربي نهر الوزاني والواقعة تحت السيطرة اللبنانية بموجب خرائط اللبنانيين. أما المثلث الأحمر الذي يضم بلدة الغجر فهي أيضاً منطقة متنازع عليها، ولكنها تحت سيطرة السوريين بموجب خرائطهم. والشريط الأصفر هو منطقة سورية بإعتراف الخرائط السورية واللبنانية… ولكنها تحت سيطرة اللبنانيين! والخط الأحمر هو الحدود بموجب الخرائط السورية. أما الخط الأخضر فهو الحدود بموجب الخرائط اللبنانية. وأخيراً فإن الخط الأفقي المتقطع يمثل خط أنابيب التابلاين القديم.

هذا نموذج واحد عن التداخل في الحدود السورية – اللبنانية، ويمثل التباينات في الخرائط التي يحتفظ بها كل من الطرفين والتي ورثاها عن الجانب الفرنسي. فمنها ما ناتج عن الجانب الفرنسي الذي كان يعدل في الخرائط من دون حسيب أو رقيب. ومنها ما هو نتيجة لقرار أحادي لبناني أو سوري بتعديل الخرائط بطلب من السلطات في البلدات والقرى الحدودية. وهو مؤشر إلى الصعوبات التي ستواجه التوصل إلى إتفاق نهائي بين الطرفين السوري واللبناني حول هذه المسائل.

وماذا عن مزارع شبعا؟

المشكلة التي يواجهها اللبنانيون اليوم هي «تحديد» منطقة مزارع شبعا و»ترسيمها» على الخرائط. لقد نجحت الحكومة في تقديم المستندات والخرائط والوثائق لتأكيد لبنانية مزارع شبعا على الصعيد الدولي. كما أخذت إعترافاً «خجولاً» من الحكومة السورية بأن مزارع شبعا لبنانية. ولكنها فشلت في التوافق على تحديد الحد الشرقي والجنوبي لمنطقة المزارع. فبعض الخرائط التي طبعتها مديرية الشؤون الجغرافية في الجيش اللبناني حديثاً وضعت الحد الشرقي للمزارع في وادي عسل. وووضعت هذه الخرائط الخط الجنوبي الذي توصل إليه القاضيان غزاوي والخطيب عام 1949. أما الدكتور عصام خليفة، فقد قدّم وثائق دامغة تثبت أن السلطات اللبنانية كانت تمارس سيادتها على بلدة النخيلة جنوبي الخط المرسوم في الخرائط اللبنانية الحديثة. وهذا يعني من منظاره ضرورة خلق جيب صغير يضع بلدة النخيلة ضمن الأراضي اللبنانية. وقد طلب بعض مخاتير المنطقة في السابق رسم الحد الشرقي على سلسلة القمم الواقعة شرقي وادي عسل والذي يسهّل الأمر من الناحية الطوبوغرافية. وأخيراً، فإن اللواء أمين حطيط قد صرح في إحدى المقابلات التلفزيونية منذ بضع سنين بحلّ المسألة برمّتها عن طريق مد الحدود اللبنانية في منطقة بانياس إلى النقطة الحدودية رقم 41. وبالتالي اقتطاع كامل المنطقة التي تضم مزارع شبعا، وبلدتي الغجر والنخيلة ووضعها ضمن الأراضي اللبنانية (توجد خرائط إسرائيلية صادرة عام 1967، تضع بلدة الغجر داخل الأراضي اللبنانية). وفي خضم هذه النظريات المتقلبة، قررت الحكومة اللبنانية عام 2008 «الهروب إلى الأمام» والطلب من دائرة الخرائط في الأمم المتحدة أن تقوم هي بـ «تحديد» منطقة مزارع شبعا. وبالتالي توفقت الأمور عند هذا التعقيد في المفاوضات. وقد أخطأت الحكومة اللبنانية أنذاك، لأن المسألة في الحقيقة ليست قضية «تقنية» بل هي «سيادية» و»جغراسياسية» يقررها الشعب اللبناني… وبالاتفاق مع السلطات السورية وإعترافها بذلك الترسيم. (خريطة رقم 2 و3 و4 و5).

في الختام، وبالعودة إلى المطالب المتكررة بترسيم الحدود السورية – اللبنانية بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1701، فإن المسألة ليست بهذه السهولة التي يتصورها البعض. بل هي شديدة التعقيد وشائكة وستستغرق سنين طويلة من العمل الجاد على صعيد ترسيم الخرائط، والتفاوض مع الجانب السوري بشأنها، ووضع العلامات التي «تثبت» هذه الحدود و»تحدد» المناطق اللبنانية تفريقاً لها عن المناطق السورية. وهي مكلفة أيضاً على الصعيد المالي. ومن الصعوبة بمكان، في هذه الظروف الاقتصادية والمالية الحادة التي تلف العالم اليوم، أن تتولّى الأمم المتحدة تغطية تكاليف مثل هذه العملية عدا عن تقديم المساعدات التقنية اللازمة لها. فلماذا إذن هذا الإنحياز الأعمى للإعتماد على التقنيات الأجنبية لحل مسألة الحدود السورية – اللبنانية؟