لم تتجاوز التحليلات بشأن الأهداف المحتملة التي قد تستهدفها إسرائيل في إيران خلال الأيام الماضية ثلاث احتمالات، هي المنشآت العسكرية، النووية، والاقتصادية. بمعنى آخر، يُتوقع أن يكون الرد المرتقب “تقليدياً” إلى حد ما، من خلال استخدام طائرات مزودة بصواريخ وقنابل خارقة للتحصينات، التي يمكن أن تُطلق من مسافات بعيدة أو قريبة.
لكن السؤال الأبرز بشأن ما ستفعله إسرائيل في المرحلة المقبلة يرتبط بالآلية التي ستتبعها في تنفيذ الضربات وما إذا كانت تملك الخيارات لتبديد عقبات المسافة الطويلة التي تفصلها عن إيران، والأخرى التي تفرضها طبيعة الأهداف وعامل “السلامة” في رحلة الذهاب والعودة، التي تتطلب الكثير من إجراءات السلامة والحفاظ على السرية.
تقول صحيفة “جيروزليم بوست” في تقرير نشرته، 16 من أكتوبر الحالي، إن إسرائيل أنفقت الكثير خلال عشرين عاما في الاستعداد لضربة محتملة لإيران، واستثمرت مليارات، لتطوير ذخائر متخصصة وذكية.
الصحيفة سلطت الضوء على القدرات الإسرائيلية اللازمة لتنفيذ أي ضربة عسكرية ضد إيران عن بعد وبمسافة تزيد عن 1600 كيلومترا.
وفي حين استعرضت تفاصيل الكثير من الذخائر المتطورة وصواريخ الكروز وقاذفات القنابل الموجودة في ترسانتها أبقت السؤال المتعلق بآلية التنفيذ اللوجستية مفتوحا، ولاسيما على صعيد حركة الطائرات والوقود اللازم لها.
لكن قبل ذلك أشارت وسائل إعلام عبرية أخرى، بينها “يسرائيل هيوم” إلى أنه ليس من الواضح ما إذا كانت الضربة الفعالة التي قد تنفذها إسرائيل سواء ضد البرنامج النووي الإيراني أو المنشآت الأخرى “تشكل مهمة ممكنة بالفعل”.
تتعلق حالة عدم اليقين هذه في الأساس بالطرق الجوية التي ستسلكها إسرائيل للوصول إلى الأجواء الإيرانية والتحدي الذي ستفرضه عملية ضرب عدة مواقع محصنة في وقت واحد، فضلا عن الحاجة لإرسال العشرات وربما المئات من الطائرات إلى الجو لضرب أهداف عميقة “خلف خطوط العدو بنجاح”.
ماذا لو كان الرد تقليديا؟
رغم أن الرد المرتقب الذي ستنفذه إسرائيل ضد إيران لن يكون الأول من نوعه، إلا أنه سيعتبر الأشد في المرحلة المقبلة لاعتبارين.
الاعتبار الأول يرتبط بالتصعيد الكبير الحاصل في المنطقة وخاصة ما يتعرض له حزب الله وكيل حزب الله في إيران.
والثاني بأن الهجوم الأخير كان على زخم أكبر مما كان عليه في أبريل الماضي، إذ استخدم فيه “الحرس الثوري” الإيراني صواريخ بالستية بعيدة المدى، وليس مسيرات انتحارية.
لكي تنفذ إسرائيل ضربتها ضد إيران بالمعنى التقليدي ستحتاج إلى مئات الطائرات للذهاب إلى الأراضي البعيدة، وستكون ملزمة بامتلاك معلومات استخباراتية دقيقة ومحدثة عن كافة المواقع النووية الإيرانية ومواقع المعدات، بحسب “يسرائيل هيوم”.
وسيفرض عليها طول المسار الجوي ضمان عدم إسقاط أي طائرة في الطريق أو أن ينكشف أمر الهجوم، كما ستكون ملزمة أيضا بنشر طائرات قادرة على قطع المسافة بأكملها أو إعادة تزويدها بالوقود في الجو وفي طريق العودة.
مثل هذه العملية سوف تتطلب من ناحية أخرى مهمة التنسيق مع العديد من البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة، حتى لا تتلقى إسرائيل تحذيرا بعدم القيام بذلك أثناء تحليق الطائرات في الجو أو أن تتجاهلها واشنطن بعد الهجوم، بحسب الصحيفة العبرية.
وتضيف أن الوصول إلى إيران يعتبر مسألة معقدة أيضا، فهناك ثلاثة طرق رئيسية من إسرائيل: عبر تركيا، عبر الأردن ثم العراق، أو عبر السعودية، وكلها وعرة لأسباب تفرضها حالة العداء والمواقف غير الإيجابية التي قد يتخذها كل بلد لإبعاد نفسه عن المواجهة.
كما يوجد احتمال رابع في الإقلاع من أذربيجان، التي تحد إيران. ومع ذلك قد لا ترغب باكو في التورط في مثل هذه المغامرة، التي من شأنها أن تثير غضب إيران الشديد، وربما تضعها في مواجهة خطر الحرب.
وبعثت دول خليجية برسالة إلى طهران بأنها في موقف حياد، وأنها لن تفتح أجواءها للطائرات الإسرائيلية لضرب إيران.
ويعتقد فابيان هينز، الباحث في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، وهو مؤسسة فكرية دفاعية مقرها لندن أن “إسرائيل قادرة تماما على تنفيذ ضربات بعيدة المدى باستخدام قوتها الجوية”، وهو ما رأيناه مؤخرا في حالة ضرب منشآت الحوثيين في اليمن.
وفي اليمن، كانت إسرائيل هاجمت الحديدة من مسافة كبيرة، وفعلت ذلك ببعض الطائرات التي تشغلها مثل “إف 35″، التي لديها مدى كبير بالفعل يمكن تمديده باستخدام التزود بالوقود جوا، وفق هينز.
ويوضح الخبير أن تلك القدرة يمتلكها الإسرائيليون والأميركيون في المنطقة، لكن حتى الآن لا يعرف ما إذا كانت واشنطن ستنخرط في عمليات تقديم المساعدة على صعيد تزويد الطائرات بالوقود على طول الطريق الجوي إلى إيران.
“إذا كانت لديك قدرات التزود بالوقود جوا فيمكنك توسيع نطاق حملتك، وبالطبع تحتاج إلى مكان للتزود بالوقود فوقه”، بحسب هينز.
وفيما يتعلق بهذه الناحية، يقول إن “إسرائيل سبق وأظهرت أنها تستطيع العمل فوق أماكن مثل سوريا أو العراق دون عقاب.. ولذا فإن هذا الاحتمال ممكن”.
أما عن خيار الانطلاق والعودة من أذربيجان فيرى هينز أن إسرائيل قد تحاول تجنب ذلك إذا كان ذلك ممكنا، لكنها ستعتمد على متطلبات إضافية، على سبيل المثال، عندما يتم إسقاط طائرة فوق إيران، فمن الناحية النظرية سيكون من الجيد أن يكون هناك مكان يمكنك إطلاق مهمة إنقاذ منه.
لكن الخبير يعتقد أن الطائرات الإسرائيلية العاملة بالفعل من أذربيجان قد لا تكون ضرورية، وخاصة إذا ما رأينا ضربة محدودة.
وفي المقابل من غير المؤكد ما إذا كانت الحكومة الأذربيجانية على استعداد لتحمل هذه المجازفة، وهي التي سبق وأن نفى سفيرها في تل أبيب مختار محمدوف في 2023 الأنباء التي تفيد بأن “أذربيجان أعدت مطارا يهدف إلى مساعدة إسرائيل في حال قررت مهاجمة المواقع النووية الإيرانية”.
عن قرب أم عن بعد؟
وتتطلب مهاجمة عدد قليل من المواقع سواء العسكرية أو النووية والاقتصادية عشرات إلى مئات الطائرات، وكلها تعمل في إيران على مسافة تزيد عن 1600 كيلومتر من إسرائيل.
وعلى أساس ذلك لا بد أن تمر العملية إما عبر أو بالقرب من المجال الجوي لدول أجنبية أو دول معادية لإسرائيل، ولابد أيضا أن تعود القوة بأكملها سالمة، بحسب صحيفة “يسرائيل هيوم”.
وفي حين أن التقديرات تشير إلى أن القوات الجوية الإسرائيلية تعرف كيف تصل إلى الهدف دون أن يتم اكتشافها، “لابد وأن تظل يقظة”، ويضاف إلى ذلك تأكيد الصحيفة أنه وباستثناء الإقلاع من أذربيجان، فإن أي مسار طيران آخر يتطلب من الطائرات الإسرائيلية إعادة التزود بالوقود في الجو.
وتلفت أيضا إلى أن الحد الأقصى للوزن الذي يمكن للطائرة أن تحمله من شأنه أن يجبر طائرات إف-35 على إعادة التزود بالوقود إذا كانت تحمل حمولتها الكاملة من الذخيرة وتقلع بخزانات وقود ممتلئة، مما يجعل القصة برمتها أكثر تعقيدا.
لكن الخبير هينز يطرح احتمالا مغايرا لما سبق، موضحا لـ”الحرة” أن الشيء الذي يجب وضعه في الاعتبار هو أنه عندما تريد إسرائيل الوصول إلى هدف، فليس عليها بالضرورة الوصول إليه باستخدام الطائرة.
وتمتلك إسرائيل ما يسمى بالذخائر البعيدة المدى، أي الأسلحة بعيدة المدى التي تطلق من الطائرات، والتي يمكنها زيادة نصف قطر القتال للطائرات المأهولة بشكل كبير.
ويطرح الخبير مثلا عن ذلك بأنه بعد الضربة التي نفذتها إيران في أبريل 2024 ردت إسرائيل بضرب نظام دفاع جوي في أصفهان، ولم تدخل الطائرة المجال الجوي الإيراني أبدا.
وفي ذلك الوقت أطلقت إسرائيل صاروخا بالستيا من الجو بمدى كبير، وتمكنت من إصابة الهدف بدقة شديدة.
واستخدمت إسرائيل على مدى السنوات الماضية أيضا ذخائر بعيدة المدى بدرجة كبيرة في سوريا، ولأكثر من مرة لم تدخل طائراتها المجال الجوي السوري في العديد من الضربات التي نُفذت هناك.
ولذلك يؤكد هينز أن إسرائيل “يمكنها القيام بهذا النوع من الضربات، ولديها أيضا بعض القدرات الإضافية التي لا نعرف عنها سوى القليل من حيث الصواريخ الباليستية والصواريخ المجنحة التي تُطلق من الأرض أو من الغواصات”.
وهذه الأنظمة تستخدمها إسرائيل في قوتها النووية وللردع النووي.
ومن الممكن أن يكون لديها أيضا نسخ مسلحة تقليديا منها، “لكننا لا نعرف إلا القليل عن هذا الأمر” وفق هينز الذي يستبعد حصول هذا الاحتمال.
“مناورات استباقية”
وتتراوح خيارات إسرائيل ضد إيران بين توجيه ضربات رمزية لأهداف عسكرية وشن هجمات مدمرة على صناعة النفط الحيوية أو برنامجها النووي السري والمحصن بشدة .
وكان من المتوقع أن تتصدر شدة وتوقيت أي ضربة انتقامية جدول أعمال اجتماع مقرر هذا الأسبوع في البنتاغون بين وزير الدفاع الإسرائيلي ونظيره الأميركي، لكن وزارة الدفاع الأميركية أعلن في وقت متأخر من الثلاثاء أن الاجتماع تأجل فجأة، بحسب “أسوشيتد برس”.
الوكالة نقلت عن رئيس الوزراء السابق، إيهود أولمرت قوله إن “السؤال ليس ما إذا كانت إسرائيل سترد أم ستستجيب، بل السؤال هو أي طريق ستسلكه إسرائيل”.
وأوضحت أن توجيه ضربة إلى أي مكان في إيران يشكل تحديا لوجستيا لإسرائيل.
في أغسطس الماضي كان الجيش الإسرائيلي أعلن عن مناورات طويلة المدى للتزود بالوقود، وقال في بيان إنها “تحاكي تحليقا لمسافات طويلة في عمق أراضي العدو، مع إجراء عمليات التزود بالوقود جوا عدة مرات في فترات قصيرة”.
وأُجريت المناورة فوق الأجواء الإسرائيلية، وشاركت فيها إحدى طائرات التزود بالوقود من طراز بوينغ 707 التابعة لسلاح الجو الإسرائيلي، وعدة طائرات مقاتلة من طراز إف-35 آي وإف-15.
“وصفة حرب إقليمية”
ووفقا لـ”جيروزليم بوست” فإن إسرائيل خصصت خلال السنوات الماضية أجزاء كبيرة من مساعداتها الأميركية لشراء طائرات مقاتلة قادرة على الطيران لمدة ساعتين في كل اتجاه،بدءا من سرب طائرات إف-15 آي المتقدمة إلى أربعة أسراب من طائرات إف-16 آي سوفا.
وفي غضون ذلك عملت شركة “لوكهيد مارتن” على تطوير خزانات وقود متوافقة خصيصا لهذه الطائرات، مما أدى إلى تعزيز مداها دون التأثير بشكل كبير على الديناميكا الهوائية أو التوقيع الراداري.
كما تشير تقارير أخرى لوسائل إعلام عبرية وأميركية إلى أن إسرائيل طورت خزانات وقود قابلة للفصل لطائرات إف-35، مما يمكنها من الوصول إلى إيران لكن مع قدرات أقل على صعيد التخفي من الخطر.
ويقول نيكولاس ويليامز، المسؤول السابق في حلف شمال الأطلسي ووزارة الدفاع البريطانية، إن “الرد” الذي تحدث عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو “قيد الإعداد وقد يكون وشيكا”.
والخميس كشف الرئيس الأميركي جو بايدن أن واشنطن على علم بطريقة الرد الإسرائيلي على إيران وموعده، لكنه لم يقدم أي تفاصيل.
وكانت إيران أطلقت ما بين 180 و200 صاروخ على أهداف عسكرية واستخباراتية في إسرائيل في مطلع أكتوبر الحالي.
ويتوقع ويليامز في حديثه لموقع “الحرة” أن تقتصر إسرائيل في ردها على نفس الشيء، باستخدام الطائرات والصواريخ الباليستية لضرب الأصول العسكرية والاستخباراتية، مع إضافة بعض الأهداف الحكومية والبنية التحتية الاقتصادية.
بخصوص الخيارات الممكنة الآن يرى المسؤول السابق في الدفاع البريطانية أنها ستكون “محدودة” بالنسبة لإسرائيل.
وفي حين يشير إلى أن المواقع العسكرية والصواريخ الإيرانية محمية بشدة، ويقول إن الولايات المتحدة حذرت نتانياهو من استهداف منشآت الإنتاج النووي والنفطي يعتقد أن “الإسرائيليين سيستمعون إلى تحذيرات جو بايدن، لأنهم يحتاجون إلى الأميركيين تماما في حالة وقوع هجوم مضاد إيراني ضخم”.
ومع ذلك، من الصعب أن نرى كيف يمكن للإسرائيليين بسهولة إلحاق أضرار مميتة ودقيقة في إيران بالنظر إلى حجم البلاد والمسافات التي تستغرقها الطائرات للطيران.
كما أن القيود التي فرضها الأميركيون والدفاعات الجوية التي يمتلكها الإيرانيون بكثرة تجعل من شن هجوم مدمر أمرا شبه مستحيل، خاصة وأن الروس يقدمون الدعم الفني والمادي، بحسب ويليامز.
ويتابع المسؤول السابق: “إسرائيل عازمة على مهاجمة إيران والولايات المتحدة عازمة على الدفاع عنها في حالة حدوث المزيد من التصعيد. وهذه وصفة لحرب إقليمية شاملة”.
ماذا لو كان غير تقليدي؟
في مقابل السيناريوهات المتعلقة بآلية الرد التقليدي الذي ستنفذه إسرائيل ضد إيران لا يستبعد خبراء ومراقبون أن تكون طبيعة الرد المرتقب مختلفة عن ذلك.
ويشرح الخبير الأمني والجيوسياسي، عامر السبايلة أن “إسرائيل تحاول استثمار مساحة الوقت الآن في خلق واقع ضبابي”.
وبينما يتوقع أن تكون ماهية الرد “غير تقليدية” يشير إلى أن العملية الإسرائيلية المرتقبة يتم التمهيد لها الآن بإتمام عملية تحييد جبهة لبنان كما حصل في غزة وتحييد جبهة سوريا.
ويضاف إلى ذلك جبهة اليمن، والدخول الأميركي القوي الذي رأيناه ليلة الخميس، بضربة نفذتها قاذفات استراتيجية خفيّة من طراز “بي-2”.
بحسب السبايلة فإن عمليات التحييد التي تسير بالتوازي “يعني أن إسرائيل ستقوم بعملية كبيرة في إيران”.
ويعتقد أن نمطها سيستند إلى “عامل المفاجأة والبعد الاستخباراتي”.
وفي حين تذهب التحليلات بأن إسرائيل ستنفذ ضربة تقليدية عبر الجو قد تكون الأمور في مكان آخر تماما.
وبالتالي يمكن القول إن “الرد الإسرائيلي المرتقب سيكون مؤذيا ومبنيا على فكرة التعطيل والشلل العملياتي للحرس الثوري الإيراني”، وفقا للخبير الجيوسياسي الأردني.
في المقابل ستعتمد كل الخيارات والاحتمالات المتعلقة بالرد الإسرائيلي على نطاق الضربة والسؤال المتعلق بالأهداف التي ترغب إسرائيل في استهدافها، كما يؤكد الخبير، فابيان هينز.
وأظهرت إسرائيل في الماضي ميلا نحو استهداف الأهداف الحيوية، ولذا من المهم للغاية الحصول على معلومات استخباراتية دقيقة حول الخصم ثم توجيه الضربات في الأماكن التي تؤلمه أكثر، بحسب قوله.
ويمكن أن تكون هذه الأهداف “عنق زجاجة تقني أثناء الإنتاج أو منشآت حساسة أو منشآت عسكرية حساسة، أو حتى أشخاص مرتبطين ببرامج تخص منظمات أو دول”.
كما يضيف الخبير أنه “يمكن لإسرائيل زيادة تأثير الضربة من خلال اختيار الأهداف بذكاء وبمعلومات استخباراتية جيدة، وفي وقت تحافظ على نطاق الهجوم محدودا”.