من يراقب التطورات العسكرية والسياسية على أكثر من محور، لا بد أن يعود إلى النقطة التي انطلقت منها شرارة التحولات في المنطقة وتوسعها إلى المضائق والممرات المائية، التي تشكل الشريان الأساسي للتجارة العالمية، لن ينجو أي بلد من حرائقها .
تقول أوساط دبلوماسية عليمة إن الضجة المثارة حول انسحاب أميركي وشيك من سوريا، وإعادة جدولة وجود قوات التحالف الدولي في العراق، إنما تحمل الكثير من الافتعال والمراهنات الأقرب إلى الوهم، لأن الأميركيين بحسب المعلومات المتوافرة ليسوا على استعداد للخروج من سوريا، بل إنهم بالعكس وطّدوا وجودهم العسكري في منطقة التنف وثبتوه عمليًا، إلى جانب وحدات محلية زودوها بعتاد كاف لمواجهة ما قد تتعرض له المنطقة من حملات، فضلًا عن توزع نقاط ثابتة في مناطق السيطرة الكردية عند الحدود بين سوريا والعراق، بل إن هناك نقطة ثابتة في منطقة الالتقاء بين القوات الكردية والقوات التركية وقوات النظام السوري في شمالي سوريا، قريبة من الحدود التركية، هذه النقطة حساسة جدًا وتؤشر إلى أنّ الأميركيين حريصون على دوزنة إيقاع التنافس بين القوى المختلفة على الأرض السورية، بمعنى آخر بين القوى الحليفة المختلفة على الأرض السورية.
أما فيما يتعلق بالعراق فالمسألة طبيعية باعتبار أن دور التحالف تغير عما كان عليه مع ثورة “داعش” في العراق وسوريا. لكن انسحاب القوات العسكرية الدولية من العراق لن يكون غدًا، وقد تطول وتمتد لسنوات، وهذا لن يمنع في أي حال استمرار التعاون العسكري الأميركي العراقي على أعلى المستويات وعلى مستوى الخبراء كما هو الآن، فضلًا عن أن الوجود الأميركي في الأردن وبحسب المعلومات نفسها، تطور إلى وجود أكثر فعالية يوفر دعمًا واضحًا للقوات الأردنية، التي باتت تبدي أكثر فأكثر إرادة لمواجهة العصابات المسلحة عند الحدود مع سوريا.
أما فيما يتعلق بلبنان فإن الدور الأميركي قائم ومستمر وسيبقى، بل إنه سيشهد المزيد من تطور على صعيد الفعالية مع وصول السفيرة الأميركية الجديدة ليزا جونسون، يضاف إليها وما تسرب لناحية التطوير الإضافي لأقسام السفارة الأميركية الجديدة لكي يكون موقعًا إقليميًا متقدمًا في الشرق الأوسط ما يؤشر إلى رهان الأميركيين على وجودهم القوي والدائم في لبنان.
في أي حال، الأميركيون ينتظرون المسار المفترض لحرب غزة والذي يعرفونه مسبقًا، وهو إعادة النظر في تركيبة القطاع على مستوى السلطة فيه، فضلًا عن الحرص على دعم السلطة الفلسطينية الثابتة ولكن لجهة تطويرها وإحداث تغييرات في مراكز القوى فيها، بما يؤمن استمراريتها ودورها المستقبلي. من هنا إن الأميركيين غير مستعدين لأي انكفاء في المنطقة، بل إنه على العكس يراهنون على تصعيد المواجهة كما هو حاصل في البحر الأحمر مع الحوثيين، كما هو حاصل بالنسبة للضربات المستمرة بين الحين والآخر، لا سيما في سوريا مع تعزيز الرقابة البحرية والجوية من المتوسط مرورًا بالبحر الأحمر إلى بحر العرب والخليج العربي .
أما فيما يتعلق بالوضع اللبناني الذي بات في قلب الأحداث عسكريًا وسياسيًا ومحاولات إعادة إنعاش الوساطات، فإن الموقف السيادي المسيحي من التطورات الإقليمية وتأثيرها على الواقع الراهن، من الواضح أن هذا الموقف يراهن على صلابته وصموده في وجه التحولات، ومحاولة إمرار صفقات ومقايضات معينة، وتاليًا هناك ثقة كبيرة أنه لا يمكن لأي أحد حتى ولو تمتع بدعم دولي أن يغير في المعادلة اللبنانية لصالح تعزيز هيمنة حزب الله على الدولة من خلال رئاسة الجمهورية وسواء من المواقع .
وتكتفي هذه المصادر بالقول إن المرحلة المقبلة ستثبت هذا الرهان، معبرة عن تفاؤل متزايد بأن الضوء بدأ يظهر في آخر النفق.