القضاء
على الرغم من صدور قرارات رسمية متتالية من قبل رؤساء حكومات سابقين لإلغاء وثائق تُشكّل ملاحقة غير قانونية، واعتبارها كأن لم تكن، فإنها للأسف ما زالت سارية المفعول. هذه الوثائق، التي تشير بعض المصادر إلى أنها “موروث” من فترة الوصاية السورية على لبنان، شهد تفعيلها وانتشارها الواسع كأداة للملاحقة الأمنية تزايداً كبيراً في الفترة اللاحقة لعام 2، يُستند إليها لتوقيف الأشخاص والتحقيق معهم، وقد يصل الأمر إلى تعرضهم للتعذيب أحياناً، حتى لو كانوا قد قضوا أحكامهم أو بُرّئوا قضائياً. هذا التناقض الصارخ بين القرارات الرسمية والواقع الميداني يكشف عن خلل عميق في تطبيق العدالة ويُلقي بظلاله على ثقة المواطنين بمؤسسات دولتهم، وفق ما يراه خبراء في الشؤون الأمنية.
حول هذه التناقضات، يوضح المحامي محمد صبلوح أن قضية “وثائق الاتصال” بدأت في عام 2011، حين أوجدتها مخابرات الجيش اللبناني بهدف معلن هو “خلق بيئة مطلوبة للقضاء”. لكن الواقع كان صادماً، فقد تحول أشخاص لا يملكون أي سجل عدلي أو أحكام قضائية إلى مطلوبين فجأة. هذه الوثائق أدت إلى أحداث متتالية في مناطق مثل جبل محسن وباب التبانة.
وأشار صبلوح إلى أن مدير مخابرات الشمال العميد ع.ح، وحده، أصدر 11 ألف وثيقة اتصال، هذه الوثيقة، بحسب تعريفه، هي في الأساس تقرير مخبر يزعم رؤية شخص يحمل سلاحاً على سبيل المثال، وتصل نسبة الخطأ فيها إلى 90%، بينما لا تتجاوز نسبة الصحة 10%.
بدأوا بوضع أسماء بأعداد هائلة، مما أدى إلى ملاحقة أعداد ضخمة من الناس. إذا أراد أي منهم إصدار جواز سفر، يتم توقيفه، لأن الجيش حين يعمّم وثيقة الاتصال، تلتزم بها جميع الأجهزة الأمنية، رغم أنها غير قانونية، لكونها غير صادرة عن القضاء، بل عن جهاز أمني لا يملك صلاحية إصدار وثائق توقيف.
صدرت هذه الوثائق عن الجيش عام 2011، مما أدى إلى اعتقالات عشوائية. يدخل الناس السجون ويمضون أحكامهم، ثم يخرجون، منهم من يحصل على براءة، ومنهم من يقضي سنة، والبعض 10 سنوات. لكن حتى بعد خروجهم، تبقى وثائق الاتصال سارية المفعول. هذا يعود إلى استخدام مخابرات الجيش والأجهزة الأمنية بشكل عام – لتجنب ظلم الجيش – هذه الوثائق لخنق البيئة المحيطة، بحيث يظل هؤلاء ملاحقين بتهم مثل الإرهاب. فمثلاً، قد يُوقَف أحدهم عند حاجز أمني بعد أسبوع فقط من خروجه من السجن، ليُحال إلى وزارة الدفاع حيث يتعرض للضرب والتعذيب لمدة 5 أيام، ثم يُطلق سراحه، ليُوقَف مجدداً بعد يومين في مخفر آخر ويُحال إلى وزارة الدفاع مرة أخرى. وقد جرى التنبيه مراراً وتكراراً في عامي 2012 و2013 بأن هذه الوثائق ليست قانونية، لكن لم يُستجب. وفي عام 2014، أصدرت حكومة تمام سلام قراراً بإلغاء وثائق الاتصال واعتبارها كأن لم تكن نظراً لعدم قانونيتها، وقد تم التأكيد على ذلك وإقامة احتفالات بالمناسبة. ومع ذلك، لم يلتزم أي جهاز أمني بهذا القرار.
واستشهد المحامي صبلوح بحالة عبد الرحمن مبسوط كمثال صارخ، الذي لم يسأل أحد عن سبب ارتكابه الجريمة بحق عناصر الجيش. بعد توقيفه في تركيا، رفضته جماعات مثل داعش والنصرة لاعتباره مرسلاً لاختراقهم. أُعيد إلى لبنان، حيث تعرض للتعذيب في الأمن العام، ثم أُحيل إلى سجن رومية حيث قام بتشويه وجهه. بعد إنهاء عقوبته وخروجه، بدأ يعمل في مرفأ طرابلس كعتّال. لكن في كل مرة يدخل أو يخرج، تُظهر النشرة الأمنية أن عليه وثيقة اتصال، فيتعرض للضرب والتعذيب مجدداً. هذا الوضع أحدث لديه في النهاية ردة فعل عكسية، فحمل الكلاشينكوف وأطلق النار على من يرتدون البدلة العسكرية، مستثنياً المدنيين. ورغم أن جريمته مدانة، إلا أنه لم يعد يتحمل ما يحصل معه، وسبب ذلك كله هو وثيقة الاتصال التي لم يلتزم أحد بإلغائها. ومنذ عام 2014، مرت السنوات حتى شهر كانون الثاني 2025، حيث صدر تعميم جديد بإلغاء الوثائق، ولكن لم يلتزم به أيضاً، ولم يُسأل أحد عن السبب.
وأضاف صبلوح أن استمرار العمل بهذه الوثائق يعيدنا إلى مراحل سابقة كنا نتوقع تجاوزها، مستشهداً بتوقيف أحد الأشخاص القادمين من أستراليا مؤخراً، على الرغم من قرار الرئيس نواف سلام بإلغاء وثائق الاتصال. هذا التوقيف يثبت أن المشكلة قائمة ولا تزال تؤثر على حياة الناس. ولفت صبلوح إلى أن عدداً كبيراً من الأشخاص الذين صدرت بحقهم وثائق اتصال، يخرجون منها ببراءة بعد ملاحقتهم، مؤكداً أن وثيقة الاتصال لا تتضمن التهمة الموجهة للشخص أصلاً، مما يجعلها أداة فضفاضة للتعقب والملاحقة. كما كشف عن أن هذا الوضع فتح باباً “للسماسرة”، حيث يُعرض على بعض الأشخاص إزالة وثيقة الاتصال الخاصة بهم مقابل مبالغ مالية، ما يؤكد غياب الشفافية والمساءلة في التعامل مع هذه الوثائق.
وذكر صبلوح أنه ذهب إلى الرئيس نواف سلام وسلّمه كتيباً بعنوان “التطرف بين مطرقة الأمن وسندان القضاء”، وشرح له عن وثائق الاتصال، وكيف أنها ما زالت سارية رغم قرارات إلغائها، ووعده الرئيس سلام بمتابعتها. وشدد صبلوح على أنه في العهد الجديد والدولة الجديدة بعيداً عن الأداء البوليسي، يجب إلغاء هذه الوثائق وكأنها لم تكن، فبعض الأشخاص لا يستطيعون السفر للعلاج بسببها. وأشار إلى أنهم قبل سنتين، توجهوا إلى النيابة العامة العسكرية والتمييزية وطلبوا منهم كتاباً للجيش لوقف هذه الوثائق، فكان الرد بأنها غير قانونية، وأن إصدار أي وثيقة قضائية لوقفها سيعني “شرعنتها”.
ختاماً، يرى المحامي صبلوح أن استمرار العمل بـ”وثائق الاتصال” يُظهر ضعفاً في تطبيق القانون وغياباً للمساءلة، مما يؤثر سلباً على السلم الأهلي وحياة الأفراد الذين يجدون أنفسهم عالقين في دوامة من القيود والملاحقات. فالكثيرون لا يستطيعون استخراج وثائق رسمية أو السفر للعلاج أو العمل بسبب هذه الوثائق غير القانونية. هذا الوضع قد يدفع بعض المتضررين إلى ردود فعل يائسة، كما حدث في بعض الحالات الموثقة التي تحولت فيها المعاناة إلى عنف. من الضروري إلغاء هذه الوثائق بشكل نهائي وفعال، وضمان أن تكون جميع الإجراءات الأمنية تحت رقابة القضاء وحده، لضمان حقوق وحريات المواطنين وتطبيق القانون على الجميع دون استثناء