الخميس 16 شوال 1445 ﻫ - 25 أبريل 2024 |

برامج

شاهد آخر حلقاتنا اونلاين

لماذا يمنع الأسد عودة اللاجئين إلى بلادهم؟

بدأت روسيا نشاطها العسكري الفعلي في الحرب السورية عام 2015. حتى هذه اللحظة، استخدمت الخدمات الخاصة الروسية، الوضع في سوريا لتخويف المقاتلين والمتطرّفين القوقازيين المتعاطفين مع “الحرب المقدّسة من أجل الخلافة الإسلامية” – الشعار الذي انتشر وتوسّع تحته تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي في روسيا، وبفضل هذه الحُجّة وبذريعة محاربة الإرهاب الدولي، دخلنا إلى سوريا. كان الدافع المنطقي الآخر لمشاركتنا هو الالتزامات الدولية التي تفرضها معاهدة الصداقة والتعاون بين سوريا والاتحاد السوفياتي، المبرمة في الثمانينات.

كان تدخل روسيا مهماً للغاية لبقاء نظام الرئيس بشار الأسد.

بعد أكثر من ثلاث سنوات، استعاد الرجل الذي أطلق عليه الغرب لقب “الديكتاتور الدموي”، الهيمنة على كامل الأراضي السورية.

دفعت روسيا ثمناً فادحاً في سبيل هذا الانتصار العسكري الذي تفتخر به: ينظر المجتمع الدولي إلى النزاع السوري باعتباره أكبر مأساة إنسانية تسببت في أعظم نزوح للأفراد منذ الحرب العالمية الثانية. تبين أن نسبة نزوح المواطنين خارج البلاد وصلت إلى ما يزيد على 6 ملايين شخص، فتحوّل أكثر من 6 ملايين فرد (بحسب الإحصاءات الرسمية المعلنة فقط) إلى لاجئين، بينما أشارت آخر إحصاءات التعداد الرسمية للسكان في سوريا ما قبل الحرب إلى 20 مليون نسمة. لا يمكن حالياً حساب نسبة الخسائر بين المدنيين في الحرب السورية، فقد توقفت الأمم المتحدة عن احتساب الضحايا عام 2014، وتمسكت بتصريح وحيد عن العدد الرسمي؛ “أكثر من 100000 شخص”.

بعد تدخل روسيا عسكرياً، وتجاهل احتمالية حدوث خسائر في الأرواح أثناء الغارات، تجاوزت الخسائر النصف مليون.

بحلول عام 2018، عندما استعاد بشار الأسد، بمساعدة إيران وروسيا، سيطرته على بلاده، كانت سوريا في واقع الأمر أصبحت منطقة شبه مقفرة، خالية من الناس. لذلك، أضحت مسألة عودة اللاجئين على رأس الأولويات، وتحدثت وزارة الدفاع الروسية عن الأمر بلغة القانون الدولي.

بالنظر إلى مساعي الوزارات الروسية خلال العام الماضي – من وزارة الدفاع ووزارة الخارجية إلى وزارة التنمية الاقتصادية، والتي تختص بأمور الدعم المالي لنشاط أمانات عدد من اللجان الدولية للتسوية الإنسانية والسياسية للأزمة السورية، بالنظر لكل تلك المساعي، يمكننا التأكد من كون روسيا مهتمة للغاية بحل قضية اللاجئين.

يقف الأردن ولبنان ـ أقرب جيران سوريا جغرافياً ـ ضمن أوائل الدول المهتمة بذلك الشأن، بخاصة وقد دعتهم الأزمة إلى قبول ملايين النازحين السوريين الفارين من الحرب. تُصدر تركيا تصريحات في شأن عودة اللاجئين، إذ يقيم على أراضيها، وفقاً للبيانات الرسمية، أكثر من 3 ملايين لاجئ سوري، وقد تلقت هذه البلاد مساعدة كبيرة من الاتحاد الأوروبي لإعادة توطين اللاجئين على أراضيها، وصلت إلى 6 مليارات يورو.

أما عن الدول الأوروبية التي استقبلت حوالى مليون لاجئ سوري، وفقاً للبيانات الرسمية لوزارة الدفاع في روسيا، فترفض التعاون مع روسيا في ما يتعلق بعودة اللاجئين إلى بلادهم. ومثل الأمم المتحدة، يُعدّ موقف الاتحاد الأوروبي في هذا الأمر واضحاً: طالما أن الأسد وحاشيته ما زالا في موقع السلطة في سوريا، فإن المشاركة في إعادة الإعمار بعد الحرب في البلاد (سواء في البنية التحتية أو في ما يتعلق بالبعد الإنساني) منتهية وليست محل نقاش. لم تنجح روسيا بعد في زعزعة هذا الموقف، ولا في استمالة الدول الغنية الأعضاء في جامعة الدول العربية نحو استعادة سوريا وضعها الطبيعي كدولة.

علاوة على ذلك، فقد أصبح واضحاً للغاية عدم وجود إجماع حقيقي على فكرة تسوية وضع البلاد بعد الحرب حتى بين روسيا وأقرب حلفائها – إيران وحتى سوريا نفسها.

وفيما تناشد روسيا مستجدية إنسانية الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة، تناشد سلطات لبنان والأردن نظامي إيران وسوريا مباشرة بعدم عرقلة عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم.

محطة انتقالية

وفقاً لوزارة الدفاع الروسية، قامت الجمهورية اللبنانية، وهي دولة صغيرة يبلغ عدد سكانها 4 ملايين نسمة، باستضافة حوالى مليون لاجئ سوري. لكن هذا العدد يشمل الأفراد فقط الذين نزحوا من سوريا وتمكنوا من الحصول على وضع اللاجئ الرسمي منذ بداية الحرب وحتى عام 2015. في بداية عام 2015 (تزامناً مع بداية العمليات العسكرية واسعة النطاق في سوريا بمشاركة فعّالة من الطيران الروسي)، أوقفت الوحدة المحلية للمفوضية، تحت ضغط من السلطات اللبنانية، تسجيل اللاجئين. تقول منظمات حقوق الإنسان المحلية، إن عدد اللاجئين وصل على الأرجح إلى مليوني لاجئ في لبنان، وعددهم في بعض المناطق يوازي عدد السكان المحليين.

يعد لبنان بلداً ذات ظروف خاصة ومختلفة للغاية في الشرق الأوسط، فقد استطاع الحفاظ لعقود طويلة بعد تضحيات هائلة (بما في ذلك حرب أهلية دامت 15 عاماً) على توازن ديني عرقي هشّ بين المسيحيين والمسلمين، وبين الشيعة والسنة في المجتمع المسلم.

الغالبية العظمى من اللاجئين السوريين من الطائفة السنية، وهذه الحقيقة تزعزع التوازن وتشكل تهديداً للمبدأ الأساسي للتعايش اللبناني.

هذا ناهيك بحقيقة وجود مخيمات للاجئين الفلسطينيين في لبنان منذ 30 عاماً، والتي أصبح استقلالها المطلق عن الدولة مشكلة حقيقية للبلاد وتسببت في اندلاع الحرب الأهلية ذاتها، التي ما زالت جراحها حية في ذاكرة كل لبناني.

رغم كل المحاولات، لم يعد خلال الأشهر الماضية (منذ تموز/ يوليو 2018)، إلى سوريا من اللاجئين في لبنان سوى 55978 فرداً، غالبيتهم العظمى من النساء (16925) والأطفال (28567)

انطلاقاً من آثار هذه التجربة التاريخية المحزنة، رفض لبنان إنشاء معسكرات رسمية مدعومة من الدولة (أي مجاناً للاجئين السوريين) واقترح مسؤولوه أن يحل اللاجئون مشكلاتهم الخاصة. وقرر الكثير من السوريين بالفعل التصرف في ذلك الشأن وحدهم. استأجر السوريون القادرون على تحمل التكلفة، من اللبنانيين الشقق والكراجات والسقائف… استأجر بعضهم أراضي مهجورة، وثبتوا عليها خياماً مغطاة بالبلاستيك، تحمل شعار المفوضية العليا للاجئين. ولكن عند اندلاع الحرب السورية، نزح اللاجئون بوتيرة أعلى، وبقدرات مالية أقل. ونتيجة لذلك، كان الحل الوحيد هو العودة إلى فكرة إعادة توطين اللاجئين في المخيمات، حيث يتعين عليهم دفع إيجاره (نحو 30 دولاراً في الشهر).

تقع هذه المعسكرات بشكل أساسي في أفقر مناطق البلد – في شمال لبنان ووادي البقاع، ويسكنها الشيعة وتخضع إلى حد كبير لسيطرة “حزب الله” اللبناني الشهير (منظمة يعتبرها الغرب إرهابية، وحليفة في الحرب ضد الإرهابيين في سوريا).

بدأ لبنان منذ عام 2015 تشديد سياسات الهجرة تجاه اللاجئين وأغلق حدوده مع سوريا. أصبح من الصعب تمديد تصريح الإقامة الذي سبق إصداره للاجئين؛ وتحت ضغط من السلطات اللبنانية، تم إيقاف تسجيل اللاجئين الجدد، ولم يعد بإمكانهم الاعتماد على مزايا المفوضية. في العام الماضي، ومن دون أي مبرّرات، بدأ حرمان أولئك الذين منحوا مميزات المفوضية سابقاً. تم احتجاز اللاجئين غير الحاملين وثائق وتصريحات عند نقاط التفتيش، وتم اعتقالهم من 3 إلى 10 أيام، ثم تم إطلاق سراحهم مع أوامر بمغادرة البلاد على الفور. أدت هذه الأحداث إلى توقف الناس عن الذهاب إلى أي مكان وبقائهم معتكفين في خيامهم (كانوا اعتادوا السفر، بحثاً عن عمل – بالنظر إلى أنه قد السماح رسمياً للاجئين في لبنان بالعمل في القطاع الزراعي والبناء وفي “القطاع البيئي” – أي بتنظيف القمامة). وفي المعسكرات، أصبحت عمليات التفتيش التي تقوم بها قوات الجيش اللبناني للتعرف إلى متشددي “الجماعة الإسلامية” و”جبهة النصرة” وغيرهما من المنظمات الإرهابية المحظورة في روسيا أكثر تواتراً. من المعروف أن بعض المنتسين إلى تلك الجماعات اختبأوا في المخيمات واستخدموها لمهاجمة الجيش اللبناني. لكن حالياً وبحسب التقديرات العسكرية، فإن عدد مقاتلي هذه المجموعات في المخيمات قليل جداً. ومع ذلك، وخلال غارات التفتيش المفاجئة والتحقق من الوثائق، يتم اعتقال مئات الأشخاص ومن ثم، وبعد الانتهاء من التحقيق معهم يُطلق عادة سراح الجميع.

تمنع السلطات اللبنانية حالياً كل محاولات اندماج اللاجئين في المجتمع اللبناني. تمكنت إحدى المنظمات التطوعية في شمال لبنان من منح الحق للأطفال السوريين في الذهاب إلى المدارس اللبنانية الرسمية، حتى السنة الثالثة فقط من إقامتهم في البلاد. من الضروري أن ندرك أن هذه الخطط القاسية أصبحت تدبيراً ضرورياً، كما أنها في واقع الأمر تتفق مع رؤية لبنان – أن تصبح مأوى موقت فقط للاجئين، محطة انتقالية، ينتقل منها اللاجئون بعد فترة إلى دول أخرى على استعداد لاستضافتهم. وعلى رغم كل هذه التدابير، لم يعد خلال 9 أشهر (منذ تموز/ يوليو 2018)، إلى سوريا من اللاجئين في لبنان سوى 55978 فرداً، كانت غالبيتهم العظمى من النساء (16925) والأطفال (28567).

نسبة العودة الجماعية للنازحين لا تزال ضئيلة للغاية، على رغم كل الجهود التي بذلتها روسيا وإعلان النظام السوري استعادة البلاد والموقف النشط للبنان. لماذا؟

قررنا متابعة دعوة الجنرال ميزنتسيف، رئيس المركز الوطني لإدارة الدفاع في الاتحاد الروسي وفي الوقت نفسه رئيس هيئة التنسيق بين الوكالات لعودة اللاجئين إلى سوريا، ووجهنا سؤالنا إلى اللاجئين أنفسهم.

“أول الزائرين من روسيا”

“أنتم أول من يزورنا من روسيا طيلة الفترة التي أمضيناها هنا, هكذا صرّح زياد زاد للصحافيين من “نوفايا”، عمل زياد قبل الحرب وأثناءها مهندسا لشركة شل النفطية. زياد أب لستة أطفال، وُلد اثنان منهم في لبنان، في مخيم للاجئين بالقرب من بلدة عرسال اللبنانية.

على مدى السنوات القليلة الماضية، ظهر أكثر من مئة مخيم حول مدينة عرسال البالغ عدد سكانها 30 ألف نسمة، وحتى وقت قريب كان حوالى 120 ألف شخص يعيشون في تلك المخيمات، بينما يتناقص هذا الرقم حالياً بشكل تدريجي.

تقع عرسال في سفوح التلال. تبدأ حدود سوريا أبعد قليلاً من سلسلة التلال الصخرية الترابية للبنان، حيث محافظة حمص السورية ذات الكثافة السكانية العالية، والتي دمّرتها الحرب. إذا نظرت من أعلى الجبال، فستشاهد معسكر عرسال كمساحة رمادية لا نهائية تلمع بلونها الفضي، مقسّمة مساحتها إلى مستطيلات غير منتظمة. بعد وقت قصير من مغادرتنا، غطى الثلج كامل هذه المساحة، ثم ذاب، وسبحت الخيام عميقاً في الماء. ليست الجبال مكاناً مناسباً لتعيش فيه، بخاصة حين لا سقف فوق رأسك ليحميك، باستثناء الخيام الهشة.

تعيش عائلة زياد في خيمتين، جلسنا في إحداهما، لمحاورته بالقرب من موقد مشتعل، وفي الثانية، حيث يعيش والدا زياد، كانت زوجته تصنع طبقاً من العجين. أمكننا سماع صوت طيور تغرد أثناء حديثنا معه. عشرات من طيور الكناري الصاخبة الملونة… يربّيها زياد ليبيعها في محاولة لزيادة دخله الذي لا يتجاوز إعانة الأمم المتحدة الهزيلة (لا تزال عائلته تتلقى هذه الإعانة). لم تمنعه قلة الدخل من فرحته الطفولية التي بدت على ملامحه عندما أرانا واحداً من طيوره.

يروي زياد قصته، ويتجمع اللاجئون الآخرون تدريجياً في الخيمة حيث نجلس، ويتبين لنا أن هذه هي قصة جميع الأسر التي تعيش في هذا المخيم. جميعهم من بلدة القصير السورية الواقعة على الحدود في محافظة حمص.

ينتمي معظم أفراد المخيم هنا إلى الطبقة الوسطى السورية. هنا، يعيش المهندسون والمدرّسون والأطباء… بيد أنه لا يمكنهم العمل بشهادتهم في لبنان – حيث يمكن تغريمهم بل وحتى القبض عليهم بسبب ذلك.

لكن ما يمكنهم فعله هو اعتماد فكرة التكافل الاجتماعي في معسكرهم: يعالجون أنفسهم، يعلمون الأطفال، ويحاولون ألا ينهاروا إثر احتياجاتهم المتعددة. الكناري – هو محاولة أخرى للتعايش مع الحياة، للرغبة في الحفاظ على الإنسان في ظروف غير إنسانية.

قبل الحرب، كان 50 ألف شخص فقط يعيشون في القصير. عام 2011، دعمت المدينة الثورة، وصارت المدينة تحت حماية الجيش السوري الحر المعارض فيها. عام 2012، بدأت قوات الأسد، إلى جانب قوات “حزب الله”، الهجوم وإطلاق النار على القصير بالمدفعية. هرب السكان من المدينة. زياد، مع ذلك، بقي في المدينة حتي النهاية، كان لديه أمل بأن شيئاً ما سيتغير للأحسن. قُسمت المدينة لفترة إلى قسمين: كان زياد يعيش مع عائلته على الجانب الذي يسيطر عليه الجيش السوري الحر، بينما يذهب لعمله الذي يقع في النصف الآخر الذي تسيطر عليه الحكومة. كان لديه تصريح خاص يقدمه عند نقطة التفتيش، في نصف المدينة الذي كان تحت سيطرة نظام الأسد، كان الشبيحة يمارسون أعمالهم بنشاط واضح – وهم عصابة مؤيدة للحكومة نشرت الرعب من خلال الإرهاب بتحريض حكومي.

يقول زياد: “كنت أشاهد القتلى على الطريق، في كل يوم ذهبت فيه إلى العمل. ثم توقفت عن الذهاب إلى العمل، إذ كان بإمكانهم أن يقتلوني على هذا الطريق في أي لحظة ومن دون أي سبب”.

“أنتم أول من يزورنا من روسيا طيلة الفترة التي أمضيناها هنا”

في أحد أيام عام 2012، قرر زياد مغادرة القصير – أولاً إلى مدينة نيبيك المجاورة، والتي كانت تحت سيطرة قوات الأسد، ثم عبر الجبال إلى لبنان. كان يصطحب عائلته معه: زوجة وأربعة أطفال، إضافة إلى والديه المسنين. منذ وصولهم إلى لبنان، منذ أكثر من 6 سنوات، وهم يعيشون في مخيم اللاجئين. توفّر المفوضيّة لهم “بطاقات اللاجئين” الوردية والبطاطين والمراتب التي تُمنح بمعدل 4 قطع لكل خيمة، والمساعدات الإنسانية البالغة 27 دولاراً للشخص الواحد شهرياً. توضع هذه المبالغ في حساب البطاقات الخاصة باللاجئين، والتي لا يمكنك استخدامها في الدفع مقابل مشترياتك إلا في عدد قليل من المتاجر.

كان مبلغ 35 دولاراً يضاف إلى مبلغ الإعانة بدعم من الجمعيات الخيرية القطرية، لكن قبل عام، وتحت ضغط من المملكة العربية السعودية، قلصت قطر جميع برامجها الإنسانية في لبنان. وكانت تلك بمثابة كارثة حقيقية بالنسبة إلى اللاجئين السوريين.

أخبرنا زياد عن أحدث حملات التفتيش التي قام بها الجيش، والتي، لحسن الحظ، لم تصل إلى خيامه. (عموماً، طوال الفترة التي أمضاها في المخيم، لم يفتش الجيش خيمته إلا مرة واحدة فقط). حاصرت وحدات الجيش في وقت واحد 20 معسكراً في أنحاء المنطقة، وأجرت اعتقالات جماعية. اعتُقل 80 شخصاً من المخيم الذي يعيش فيه زياد مع أسرته، وتم إطلاق سراحهم بعد ساعتين. نسأل زياد: “لماذا؟ لماذا إذاً يتم احتجازهم من الأصل؟”.

“هناك الكثير من المقيمين في المخيمات يحملون مصادفة أسماء أولئك الذين يعتبرهم الجيش إرهابيين ويبحثون عنهم في حملات التفتيش” يجيب زياد ويضيف: “ليست لدينا شكاوى بشأن أفعال الجيش، فنحن جميعاً نتفهم”.

في المخيمات، كثيرون لا يُعتَبرون لاجئين. عندما توقفت المفوضية عام 2015، بناءً على طلب من الحكومة المحلية، عن تسجيل اللاجئين، لم يمنع هذا السوريين النازحين من الفرار من الحرب في سوريا.

حسناً، لقد توقفت هذه الحرب، كما يقولون، فهل يريد اللاجئون العودة إلى بلادهم؟

يقول زياد: “كلنا نرغب في العودة إلى المنزل. ليس لدينا مكان آخر نقصده. أنا وزوجتي يمكن أن نرحل إلى أوروبا. أنا مهندس، وقد عملت زوجتي في تدريس الأدب الإنكليزي. ولكن لن يتم قبول والديّ هناك لاعتبارات السن؛ يبلغ عمر أمي 74 عاماً، وأبي 78 عاماً. لقد ذهب جميع من في المخيم، وقدمنا طلباً للعودة إلى سوريا في المكتب المحلي للمديرية العامة للأمن العام (الإدارة المسؤولة عن سياسة الهجرة في لبنان.) أرسلوا قوائم إلى دمشق بأسمائنا، وجاءت الإجابة: لم يُسمح لأحد بالعودة إلى الوطن! عاد إلى سوريا الناس من القلمون، وعادوا من نسري. أما أبناء القصير فـ”خط أحمر”. لماذا؟”.

التصريحات والواقع

أجاب أحد السكان المحليين اللبنانيين عن هذا السؤال، وهو قائد العسكر. (يجمع هذا الشخص الإيجار من اللاجئين، وهو مسؤول عن جمع القمامة والنظام العام في المخيم، وهو دائماً على اتصال بالفرع المحلي للجيش اللبناني، الذي يلعب هنا دور الشرطة تقريباً).

السبب وراء ذلك هو “حزب الله”!

الحزب الشيعي اللبناني، الذي تموّله إيران. منذ بداية الحرب السورية، أصبحت له سياسته الخاصة المعنية بمشاركته النشطة في النزاع إلى جانب الأسد – على النقيض تماماً من الموقف اللبناني الذي اختار عدم التدخل او الانحياز لأطراف الحرب. مذ استسلمت القصير التي تعرضت للتدمير التام من قبل المدفعية، بدأ “حزب الله” بناء قاعدة عسكرية محصنة هناك، ومن المعلوم أنه لا ينوي الرحيل من القصير. لذلك لا يمكن أن يعود السكان المحليون إلى هناك.

من أجل مصالح حلفائها، لا تسمح سوريا لمواطنيها بالعودة

يقول بشار الأسد: “العودة إلى الوطن متاحة في أي وقت، وليس هناك عقبات، السلطات تبذل وستبذل قصارى جهدها لتسهيل عودة اللاجئين داخل سوريا وخارجها”.

في الوقت نفسه، يقف الواقع موقفاً بعيداً كل البعد عن التصريحات، وتثبت تصرفات السلطات السورية حتى الآن شيئاً واحداً فقط: موطن اللاجئين غير جاهز على الإطلاق لاستقبالهم.

وهكذا، ابتدع النظام السوري شرطاً لا بديل عنه لعودة اللاجئين؛ وهو أن جميع الرجال في سن الخدمة العسكرية – مُلزمون بعد ستة أشهر من عودتهم جميعاً (باستثناء ذوي الاحتياجات الخاصة) بالتطوّع في وحدات الجيش والخدمة في الجيش الحكومي لمدة عام. تسبب هذا الشرط في خوف شديد للمواطنين، ولهذا السبب، إذا راقبت الإحصاءات عن عدد الأفراد الذين عادوا إلى سوريا، سيتضح السبب وراء كون ثلاثة أرباعهم نساء وأطفال.

لكن الأمر ليس سهلاً حتى في ما يخص الأطفال. في الآونة الأخيرة، أعلنت لجنة حقوق الطفل التابعة للأمم المتحدة أن في سوريا، تم تغريم الأسر التي لم تستطع تسجيل الأطفال المولودين أثناء الحرب (لأن والديهم كانوا مهاجرين أو لاجئين قسرياً). دعا مراقبو الأمم المتحدة السلطات السورية إلى وضع حد للتمييز ومنح جميع الأطفال السوريين حقوقاً كاملة، لأن الأطفال في سوريا لا يمكنهم التمتع بمزايا الرعاية الصحية والتعليم والخدمات الاجتماعية من دون وثائق سورية رسمية.

لفتت منظمات حقوق الإنسان الدولية الانتباه مراراً وتكراراً إلى القانون رقم 10 المشين المعني بأمور العقارات، ذلك القانون الذي اعتمدته الحكومة السورية قبل عام. بسببه، سيتشرد ملايين السوريين من دون وجود سقف فوق رؤوسهم، لأن الحكومة السورية فرضت مهلة قصيرة الأجل لتوفير الوثائق التي تؤكد حق المواطن السوري في ملكية عقاره.

أدركت السلطات الروسية واعترفت بالضرر العظيم لهذا القانون، الذي من شأنه أن يتسبب في حرمان المعارضين السياسيين للسلطات السورية (الأشخاص الذين قاتلوا ضد النظام) من ممتلكاتهم، ناهيك أيضاً بحرمان السكان الموالين للنظام أنفسهم (على سبيل المثال، الشيعة من العراق) والقاطنين في المناطق الاستراتيجية المهمة في سوريا، من الحق ذاته. تنص وجهة النظر الروسية على أن هذا القانون يضر بشكل مباشر بمصالح اللاجئين، الذين ليس لديهم مكان للعودة إليه.

لكن تظل المشكلة الأكثر أهمية فيما يخص مسألة العودة هي الافتقار التام للضمانات الأمنية. قال جميع الأشخاص الذين قابلناهم إنهم سيعودون لوطنهم دون تفكير في حالة وجود ضمانات أمنية قوية يقدمها النظام أو يرعاها طرف ثالث، وهو الدور الذي كان يمكن لروسيا أن تلعبه، لأنه لا أحد حقاً يؤمن بـ “ضمانات” يمنحها النظام السوري.

وزير اللاجئين اللبناني معين المرعبي

في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي، قال وزير اللاجئين اللبناني السابق، معين المرعبي، في مؤتمر صحفي عُقد خصيصاً، إن معلومات مؤكدة قد وصلته عن مقتل ما لا يقل عن 20 لاجئ سوري بعد عودتهم إلى وطنهم من لبنان. في الوقت نفسه، أكد الوزير أنه من الوارد أن يكون هناك المزيد من الضحايا. اشار المرعبي إلى حالة محددة قام فيها ضابط رفيع المستوى في الجيش السوري في قرية باروها بالقرب من حمص ​​بقتل والده وابنيه – 13 و14 سنة – العائدين من لبنان.

تم تصوير الحادثة من قبل الذين شهدوا عملية إطلاق النار علناً، وقد وصلت صور الحادث إلى الوزير المرعبي.

ساهم المرصد السوري لحقوق الإنسان، ومقره في المملكة المتحدة بإحصاءاته في ذلك الخصوص، ومن ذلك أنهم في تشرين الأول/ أكتوبر 2018 فقط، وثقوا حوالى 700 اعتقال لأشخاص، من بين أولئك الذين عادوا لسوريا من لبنان. أخبرتنا منظمة متطوعة تعمل في شمال لبنان عن اعتقال اثنين من اللاجئين الذين عادوا قبل شهر، والذين كانوا يشرفون على عودتهم لسوريا ويتابعون الاتصال بهم، لكن الحقيقة أن هذه الأرقام لا تحكي شيئا إطلاقاً عن الأعداد الحقيقية.

لا يمكن لأي من المنظمات الدولية الوصول إلى الأراضي السورية من أجل السيطرة على سلامة اللاجئين العائدين. وتخلّت الأمم المتحدة عن هذه المهمة لأسباب سياسية. لا أحد يعرف حقيقة ما يحدث للناس بعد عبورهم الحدود. على رغم كل التصريحات الرسمية حول إنهاء الحرب وبداية السلام، لا تزال سوريا ثقباً أسود.

طوال هذا الوقت، لم توفر السلطات السورية سوى طريق واحد بالكامل مع ضمانات أمنية حقيقية – الطريق إلى إدلب.

بمساعدة من جيش الحكومة السورية المنتصر (وبدعم من القوات المسلحة الروسية) تم القضاء على جميع مراكز المقاومة تقريباً في البلاد. في الوقت نفسه، مُنح الأشخاص الذين قاتلوا النظام تصريحاً بالعبور الآمن إلى الشمال الغربي في إدلب، في هذا الصدد: كان هناك ترتيب لتقديم هذه الضمانات بين القادة العسكريين والقادة الميدانيين الروس من مختلف المنظمات المحظورة في روسيا.

على شبكة الإنترنت، على سبيل المثال، هناك الكثير من مقاطع الفيديو التي تُظهر كيف يتم تحميل الأشخاص الملتحين مع النساء والأطفال في حافلات ترافقها سيارات الشرطة على طول الطريق.

نتيجة لهذه الاتفاقية، حوت إدلب مجموعة متنوعة من الطوائف التي شاركت في النزاع المسلح: الجيش السوري الحر، وبقايا “داعش”، و”النصرة”، وأحرار الشام (منظمات إرهابية محظورة في روسيا).

تشير تصريحات سياسية صدرت بعد قمة روسيا وتركيا وإيران، حول “آخر معاقل المعارضة” في سوريا إلى أن هؤلاء الإرهابيين استخدموا “كهدف مؤجل”، ومن الوارد أن يتشابه مصير إدلب ومصير حلب أو الرقة قريباً، وتصبح الأراضي أشبه بموقع ممتاز لتصوير فيلم آخر عن معركة ستالينغراد. في الوقت نفسه، لا يمكننا القول إن إدلب وحدها تبنت استضافة المسلحين في السنوات الأخيرة، وإنما جاورهم أيضاً السوريون المسالمون الذين حرموا، لأسباب مختلفة سياسية على الأغلب، من حق العودة إلى مسقط رأسهم. وبالتالي فالثلاثة ملايين شخص الذين تم حظر وجودهم داخل إدلب، ليسوا كلهم إرهابيين، لكن هذا لا يمنع أن كثيرين منهم قد يصبحون “ضحايا إضافيين” في المعركة المقبلة مع الإرهاب الدولي.

لذلك، وعندما عُرض على زياد، وزوجته مدرّسة اللغة الإنكليزية، وستة أطفال، وأبوين مسنين، وحتى على كامل أفراد المخيم “القصيري”، الانتقال إلى إدلب بسهولة وأمان، رفض الناس هذا العرض وفضلوا الإقامة في خيامهم على وضعهم المهين. وعندما هممنا بالمغادرة؛ نحن “أول الزائرين من روسيا”، طلب زياد؛ “أخبر سفيرك عن أحوالنا. ربما يبلغ القيادة في روسيا عن سوء حظنا، ربما يستطيعون مساعدتنا على العودة إلى ديارنا”.
المصدر: daraj – وديع الحايك وإيلينا ميلاشينا وأولغا بوبروف